إن ما تشهده المنطقة العربية من أحداث فوضوية مروّعة قد يكون بداية إعلان وصول اتفاقية سايكس بيكو إلى أواخر مراحل هرمها، وبالتالي فإن ما يجري ما هو إلا مقدمات قبل إعلان موتها النهائي حيث إن هذه الاتفاقية قد قاربت المائة عام من عمرها.
(ولمن لا يعلم فإن الغرض من اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا العظمى وفرنسا آنذاك هو تقاسم أملاك الدولة العثمانية في المنطقة العربية قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية)، حيث اتضح أن هذه الاتفاقية قد استنفدت الأغراض والأهداف التي من أجلها أُبرمت.
وربما أن المرحلة القادمة تتطلب اتفاقيات وتفاهمات أخرى بين الدول الكبرى التي ورثت الهيمنة على العالم، وأعني بهما الولايات المتحدة بشكل أساس وإلى حد ما روسيا اللذين حلا مكان بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت.
إن مسيرة احتضار اتفاقية سايكس بيكو لم تبدأ كما يظن البعض مع بداية ثورات الربيع العربي، بل قبل هذا الوقت بثلاثين عاماً أي منذ صعود المحافظين الجدد إلى سدة الحكم والقرار أثناء إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريجان في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم وظهور نظرية الفوضى الخلاَّقة والشرق الأوسط الجديد.
وعليه فقد يكون ما نراه الآن من فوضى عارمة في عالمنا العربي، وكذلك ما نراه من تغليب الأقليات الشيعية الفارسية، وأيضاً تغليب الحركات الإسلامية الإرهابية ما هي إلا أدوات للوصول إلى إعلان موت اتفاقية سايكس بيكو، وبالتالي بداية التنفيذ الفعلي على الأرض لنظرية الشرق الأوسط الجديد وتفتيته لإعادة بنائه من جديد حسب متطلبات هذه النظرية.
فليس من المعقول ولا من المنطق مثلاً أن تتمكَّن حفنة من الإرهابيين الإسلاميين (داعش) الذين لا يتعدى عددهم في أحسن الحالات ثلاثين ألفاً في العراق وسوريا مجتمعين إحداث هذا الكم الهائل من الخراب والدمار والترهيب (والانتصار!!) إلا أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، وأن هذه الشرذمة التي في أحسن الحالات تملك الكثير من سيارات الدفع الرباعي والكثير من التخلف والانفصال عن الواقع تستطيع مقارعة جيوش جرارة تملك كل ما تملكه الجيوش الحديثة من مختلف أنواع الأسلحة ومئات آلاف الجنود أن تنهزم أمام هذه الشرذمة هكذا بكل بساطة، وعليه فلا بد أن يكون هناك تسهيلات كبيرة وخفية أُتيحت لهؤلاء الإرهابيين (من الدول العظمى في المقام الأول وكذلك من أدوات تنفيذ هذه النظرية الإقليميين) ليبدو المشهد كما نراه الآن بمعنى أوضح وباختصار فإن كل ما نراه من انتصارات لداعش على الأرض (وكذلك هو الحال مع تعاظم الدور الفارسي وأدواته الشيعية في المنطقة) هو بفعل فاعل وهذا الفاعل ليس مجهولاً، بل معلوم وواضح لمن يريد أن يرى ما وراء الأحداث وأن يرى كذلك الأيادي الخفية التي تحرّك الأحداث، إنها القوى الكبرى الوريثة لبريطانيا العظمى وفرنسا، وما إيران وأدواتها في المنطقة من نصيرين وشيعة وحوثيين سوى أدوات في أيدي هذه القوى الكبرى حالهم تماماً كحال داعش والقاعدة والإخوان المتأسلمين وبعض دول المنطقة التي تحاول لعب دور أكبر من حجمها بكثير.. كل هؤلاء ساهموا بانتصارات داعش المزعومة بعلمهم أو بدونه لا يهم فالنتيجة واحدة، تماماً كما لعب أسلافهم نفس الدور الغبي وكانوا مجرد أدوات لتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو على الأرض العربية.
ولعلّ من المفيد هنا أن نذكر أن من أهم المنجزات الوحدوية للأمة العربية إن لم يكن الأهم منذ بداية القرن العشرين وإلى يومنا هذا هو توحيد معظم الجزيرة العربية في دولة واحدة تُسمى المملكة العربية السعودية بالرغم من كل الأخطاء وبالرغم من مآخذ واعتراضات المعترضين وهي كثيرة، وأنا أستطيع تفهم وربما الاتفاق مع بعضها إلا أن توحُّد الجزيرة العربية بدولة واحدة يبقى أهم من اعتراضات المعترضين، وما نظرية الشرق الأوسط الجديد إلا مثال واضح على صحة ما أدّعي، فإيجابيات هذه الوحدة أكبر بكثير من سلبياتها فلا مكان في عالم اليوم إلا للدول القوية المتماسكة.
فالسؤال هنا هو: كم بقي من الوقت قبل إعلان ساعة الصفر قبل موت اتفاقية سايكس بيكو وقيام وريثتها، وعندها فقط سيعود كلٌ من هذه الأدوات إلى حجمه الطبيعي، وعلى رأسهم إيران وأدواتها وداعش وأخواتها، لكن بعد فوات الأوان وخراب مالطا كما يُقال.