طفرة الإبداع والابتكار

لا يأخذ العلماء الجادون الكلمات النسبية التي ليست لها دلالات محددة محمل الجد. فأساس العلم هو دقة المصطلحات، وهذا الأمر يعد من بديهيات كتابات الرسائل الأكاديمية بل والنصوص الجادة الأخرى، كالنصوص القانونية التي تبنى عليها أحكام قضائية، أو النصوص المتعلقة بالتخطيط

والاستراتيجيات. وهناك جدل علمي حول مفهومي «الإبداع» و «الاختراع» ومدلولاتهما، وهل يتحقق الابتكار والإبداع دون مقدمات علمية أساسية تجعلها ممكنة. ولكن علماء النفس والتربية يتكلمون عن التفكير الإبداعي من منطلق خاص محدد يعني عدم التأثر بالاستنتاجات السابقة ومحاولة الوصول لاستنتاجات جديدة. ولذا فعدم وجود معاني محددة للمقصود بالابتكار والإبداع، وعدم تحديد أهداف معينة لأي استراتيجية تطويرية تستند على مثل هذه المفاهيم قد يحيلها إلى نوع من العبث الشكلي. فتتحول الاستراتيجيات إلى شكليات وإنشاءات لفظية.

والمقصود بالشكليات المظاهر والتي هي غير المحتويات أو المخابر، والاكتفاء بالقشور وإهمال الجواهر الحقيقية للأمور ممارسة شائعة ومعروفة عالمياً. ويكثر الاهتمام بالشكليات في المجتمعات التي تعلو فيها الاعتبارات الشخصية على الاعتبارات الوطنية والأهداف العليا. فالأنشطة والمشاريع تسوق بدوافع ظاهرها وطني وداخلها شخصي: فائدة شخصية، تلميع لمسئول، إيهام بإنجازات لمؤسسة ما. وما يلبث الواقع أن ينطق بواقع الفعالية الحقيقي، وتتلاشى الفعالية بمجرّد انطفاء الأضواء الاحتفالية، وينتهي الاهتمام بها فور الانتهاء من تدشينها فيهدر وقت ومال المؤسسة والمسئولين.

وتتفشى هذه الظاهرة في المجتمعات التي لا تضع لنفسها أهدافاً محددة لتصل لها تكون قابلة للمتابعة والتقييم، وفي البلدان التي لا توزع فيها المسئولية حسب الكفاءة، ولا يكون هناك رابط حقيقي بين الإنجاز الفعلي ومن أنجزه. فيأتي الإنجاز الوهمي كشكل من أشكال التلميع ورفع العتب، وما أن يتآكل الطلاء الخارجي للمشاريع تظهر على حقيقتها كمشاريع لا يتناسب مظهرها مع جوهرها. ومن الملاحظ في السنوات الأخيرة أننا نركز كثيراً في كثير من مؤتمراتنا على حفلات الافتتاح فقط وما يشوبها من بهرجة ورسميات، وما أن تنتهي حفلات الافتتاح تذهب المسوغات التي عقد من أجلها المؤتمر أدراج النسيان.

ومن الشكليات أيضاً أن نرصد ميزانيات ضخمة ترسم من أجلها الاستراتيجيات لا العكس، أي أننا نقدم العربة على الحصان، وهنا يكون المال مغرياً ولكن تصحبه مسئولية كبيرة لتحقيق إنجاز ما بهذا المال. وخشية للإخفاق يتم وضع أهداف لا تستند لتعريف محدد، ولا تهدف لتحقيق واقع معين يمكن بموجبه قياس مدى تحقيق هذه الاستراتيجيات لأهدافها بشكل موضوعي بما يمكن من التنصل منها مستقبلاً. فيبدو من الضروري اختيار فعاليات وأنشطة ذات عناوين براقة، ومسميات مضخمة، وعبارات غير محددة الدلالة وآليات تحقيق هي أقرب للإنشاء اللغوي منها للاستراتيجيات التي تهدف لتحقيق أهداف فعلية ملموسة. من ذلك القبيل أن تكون الأهداف المعلنة تدور حول تحقيق «التميز»، أو «الإبداع»، «أو الابتكار»، أو الإيهام بالانتقال للمجتمع الفلاني، والمجتمع العلاني انتقالاً طوباوياً لا يستند إلى أي سند علمي، ولا تملك الجهة آليات تحقيقه. فالتغيرات الاجتماعية لا تأتي بالقفزات والطفرات والأحلام، ولها آلياتها البطيئة والمعقدة التي حار أعتى علماء الاجتماع في فهمها، ناهيك عن أن يأتي من يبشر بأنّ نشاطه أو مشروعه سيسهم في تحويل مجتمع كامل لمجتمع آخر رائد، دونما شرح دقيق لكيفية تحقيق ذلك. ويتضح فيما بعد أنّ أهداف المشروع الحقيقية تختفي خلف سراب اجتماعي وهمي. وللأسف فإنّ كثيراً من الأهداف التي يتم الإفصاح عنها في بعض مناشطنا التنموية هذه الأيام لا تتجاوز كونها ألفاظاً بلاغية لا مجال لقياسها أو تحديد معنى محدد لها. ويقتصر الإبداع والابتكار على شكليات الاحتفال الذي يكون مبهراً. وفي بعض الأحيان عندما تدقق في المنشورات التي يوزعها المشرفون على الفعالية وهي تتطلب جهداً بسيطاً من العناية الحقيقية تجدها مليئة بالأخطاء البدائية ولم تصل للمستوى المقبول مفاهيمياً أو لغوياً، ناهيك عن وصولها مرحلة الإبداع والابتكار. ولذا فابتكاراتنا وإبداعاتنا لا تتعدّى وللأسف مرحلة الوعود.

بدأنا طفرتنا الأولى بشعار رددناه كثيراً في معظم محافلنا، رددناه وكأنه حقيقة واقعة لا لبس فيها، وهذا الشعار هو: «نقل وتوطين التقنية»، رددناه حتى أنّ بعض ملهمينا لنقل التقنية آنذاك بدأ في وضع شروط وخصائص طبيعة النقل على من يملكون التقنية وكأنما النقل آت لا محالة، وأنّ الطرف الآخر متلهف بكل بساطة لنقل إنجازاته التقنية لنا، فاشترطنا أن يشمل النقل والتوطين التقنية فقط، وأن لا يطال ذلك الفكر أو أي تأثير اجتماعي وكأنما العالم من حولنا متلهف لتغيير مجتمعنا. ومما يؤسف له أننا اشترطنا بشكل غير مباشر منع التأثير العلمي الإيجابي، واستوردنا بدون تقنية تذكر كثيراً من الأمور الاجتماعية السلبية بشكل تلقائي. وصدقنا أنّ الهم الأكبر لصاحب التقنية كان تغيير مجتمعنا وليس المقابل الاقتصادي لها. وها نحن بعد أربعة عقود لا زلنا نستورد التقنية تحت وهْم نقلها، بل إننا لم نتمكن حتى من صيانة بعض مشاريعنا لأسباب تقنية.

أما الطفرة الحالية، فيمكننا تسميتها طفرة «الإبداع والابتكار» بامتياز، حيث أصبح الجميع يتكلم عن كيفية صنع الاختراع، وخلق الابتكار لا الابتكار ذاته، وأصبحت جميع مشاريعنا على «أعلى المواصفات العالمية» وليست المواصفة المحددة المعلنة، فجاءت مشاريعنا بأشكال فريدة يعلمها الجميع! كررنا الكلام عن الإبداع حتى أصبح الكثير من مبتكرينا المفترضين يقلدون «ستيف جوبز» في استعراضاتهم لمشاريع ابتكاراتهم. يقلدونه في: خطواته، في سماعته التي يحملها في أذنه، في الشاشة الضخمة خلفه، إيماءاته، ولكن ليس في الابتكار الذي يعرضه.

وتزخر صحفنا ومواقع تواصلنا بأخبار ابتكاراتنا العالمية، وتميز مواطنينا، ولكن لا نرى لهذه الأخبار أثراً في الصحافة العالمية مع أنّ العالم أصبح قرية صغيرة كما وصفه: مارشال مكلوهان. وأصبحنا نبحث عن أي خرم مؤسسي في أي مؤسسة نسجل فيه براءات اختراع دونما أي تقييم لها أو لأهميتها أو إسهامها العلمي الحقيقي. فقط نريد أن نسجل براءات اختراع، نريد أن نعيش هذا الخيال العلمي الذي اخترعناه لأنفسنا. والغريب أننا لم نصنّع حتى يومنا هذا أي اختراع ولو حتى صغير أو محدود، فكيف يكون الاختراع اختراعاً بدون أن يكون له وجود ملموس؟

ما اخترعناه حقيقة هو صناعة للاستعراض استجلبنا لها أحدث تقنيات المسارح والإضاءة وخيالات الحواسيب الافتراضية، فلا غرو أن أول تطبيق لتقنيات الخيال الافتراضي رباعي الأبعاد كان لدينا، استقدمته بمبالغ خيالية إحدى شركاتنا السخية التي لها مكاتب في كافة أصقاع الكرة الأرضية وتملك كثيراً من المال، فالمال يشتري الإنجازات ومن يعرضها وكل شيء آخر في هذه القرية الصغيرة. وقد يستغرب البعض لو قلت لهم إن للوهم سوقاً رائجة عالمية، وبها مجال إبداع واستثمار ولو نجحنا فقط في تأصيل أبحاثنا حول التقنيات التي استوردناها لخلق الانطباعات الوهمية لدي الناس، لأمكننا تطويرها وربما تصديرها كإبداع حقيقي لنا..