ولما كانت قضايا الهوية متشعبةً، ومتعددةً، وشائكةً. والناس فيها مختلفون، بل متصارعون.
ولما كانت الهوية في تحول مستمر، وكل يدعي أنه الأحق في توجيه مسارها، وتأصيل مفاهيمها، كانت مهمات التربية، والتعليم، والثقافة، والإعلام، وسائر المؤسسات التوعوية تزداد صعوبة؛ وواجبها المبادرة في ممارسْة التأصيل، والتحرير، والتربية، والحيلولة دون التضليل، وإرباك المفاهيم.
الخطورة تكمن في أن شباب [المملكة العربية السعودية] يشكلون أعلى نسبة في سلم التكوين السكاني في العالم. وهو الأقدر على تلقي الفيض الإعلامي، والثقافي، والجدل الفكري، والصراع الحضاري، لإمكانياته المادية، واستقرارِ أوضاعه، وخلوص المجتمع السعودي من تسلط السلطات.
وهو بهذه الإمكانيات، والمواصفات يتطلب أسلوباً راقياً للحيلولة دون انزلاقه في مهاوي الفتن، ولاسيما أن طائفة من الشباب السعودي قد انزلق بالفعل في بؤر الفتن، واستسلم لدعاة الضلال.
لقد مارست [وزارة التربية والتعليم] من خلال مادة [التربية الوطنية] تأصيل الهوية، وتعميق الولاء، غير أن المشروع لم يتجاوز مرحلة التجريب، وقد تباينت الآراء حول جدوى هذه المحاولة. وليس شرطاً أن يكون الاختلاف مرتبطاً بمشروعية المادة. المشروعية قائمة، ولا يختلف حولها أحد. فالدولة لاتكون آمنة مطمئنة إلا بتماسك جبهتها الداخلية، وقوة تلاحمها، ومعرفة من تكون وسط التعدد الانتمائي.
الاختلاف يبدو لي أنه حول الآلية، والمنهج، وترتيب الأولويات، وعدم تهيئة الكوادر، والأجواء، والتصور الخاطئ بأن الولاء للكيان، لايتسع لكل متطلبات المرحلة.
لن أدخل في التفصيل، ولكنني أود التأكيد على أننا في ظل هذه الظروف المأزومة، أحوج مانكون إلى [التربية الوطنية] المتشبعة بالروح الإسلامية، والعربية، والقائمة على التسامح، والوسطية، والتوفر على حق الوجود الكريم، والسيادة التامة.
الهوية التي ننشد تأصيلها، ليست لها مواصفات جديدة، إنها هويتنا التي حدد معالمها الملك المؤسس ورجالاته، هوية «المملكة العربية السعودية» الدولة المسلمة، المحكِّمة لشرع الله، الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، الآخذة بكل محققات الوجود الكريم، المنفتحة على كافة المكتشفات العلمية، والتقنية، المتصالحة والمتعايشة، والدافعة بالتي هي أحسن.
الهوية التي تحفظ للمواطن كامل حقوقه، وتحافظ على ضروراته الخمس.
الهوية التي تأسو، وتواسي، وتتوجع لكل متضرر.
الهوية التي تعرف للإنسانية حقها، وللأخوة الإسلامية جسدها الواحد، وللأمة العربية تلاحمها، ووحدتها.
الهوية التي لا تحتكر الحقيقة، ولاتفرط في جنب الله، والتي تدعو إلى الله على بصيرة.
الهوية التي تعرف لولي الأمر حقه، وللأرض عزها، وللإنسان كرامته.
تلك هي الهوية التي يجب أن تنهض بها مؤسسات التعليم، والإعلام، والدعوة، وسائر المؤسسات التوعوية.
وحين نرى أن الدور الأهم في تأصيل الهوية يقوم على عاتق التربية والتعليم، وينهض به [المعلم] الكفء في مختلف ممارساته، داخل الفصل، وخارجه، يكون من متطلبات النجاح، لتحقيق النتائج الأفضل، توخي الحذر من التلقين، والإلزام. التلقينُ المباشر يُحَوِّل مبادئ الهوية إلى مادة دراسية، يكتفي الطالب باستيعابها، دون تمثلها، وقد يكره المادة، لعدم قدرة المعلم على التوصيل، أو لفشله في الاستمالة، والإقناع، والاحتواء.
وكم من طالب امتد كرهه لإسلوب التعليم إلى المعلومة.
وكم من معلم استطاع أن يحبب المادة الجافة الصعبة إلى طلابه بحسن خلقه، ولينه، وتودده.
المعلم وحده الذي يستطيع حمل الطلبة على مايرى، بتفوقه المعرفي، وحسن خلقه، وجاذبيته، وسلوكه، الذي لايناقض القيم التي يحملها المقرر.
إذاً نحن أمام هويةٍ تتطلب التوصيل، ومُتَلقٍّ يتطلع إلى حسن التوصيل، وناقل يتقن آلية التوصيل ومنهجها.
الشيء الأهم أن نعي أن الهوية تتحقق بالتوازن بين الأخذ، والعطاء، وبين الحقوق، والواجبات:-
[وماحب الديار شغفن قلبي … ولكن حب من سكن الديارا]
الهوية مجموعة قيم، وليست حجارة، أو حديداً، أو تربة. ولكي تَفْرض الهُويةُ نفسها، لابد أن تنطوى على مغريات القبول.
وبلادنا بإمكانياتها، وعراقتها، تمتلك تحقيق المغريات.
ما أوده من [وزارة التربية والتعليم] إنشاء قسم خاص لهذه المادة الأهم «التربية الوطنية» تتظافر فيه جهود كل المتخصصين، والمجربين، للخروج بمادة، وآلية، ومنهج يواكب المرحلة، ولايصدم المشاعر، يحفظ التوازن، ولايميل كل الميل.
فهذه المادة في ظل تلك الظروف المأزومة لاتكون ترفاً، ولا تزيداً، ولا ثقافة وحسب.
إنها مصدات تحول دون ارتباك الأمة، وقابليتها للوقوع في مهاوي التطرف، والفوضى المهلكة. إن الولاء للكيان السياسي، والعمق الجغرافي، واللغة، لايحول دون الولاء للعقيدة، وإن الأخوة الإسلامية أوسع من أن تضيق عن سائر الولاءات.
لقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم [مكة]، وهي مليئة بالأصنام، ولم ير في ذلك إخلالاً في حبه للإسلام. ولو لم يخرجه أهلها، لما خرج.
وأحب عمه أبا طالب، وهو يحتضر، وتألم لعمه العباس، وهو يئن في الأسر. ولم ير في ذلك موالاة للكفر.
إن الحب الجِبلي، والعقدي صنوان. ولا يمكن التعارض بينهما. وحُبُّ الوطن المسلم امتداد لحب العقيدة، وحب القيادة المسلمة امتداد لحب محققات الأمن والاستقرار.
فلنكن أرحب صدراً، وأوسع تصوراً، وأقدر على التفاعل، لا الانفعال، والتصالح، لا الصدام، والتقارب، لا التدابر.
فالوضع العربي لايحتمل مزيداً من التردد، والارتباك، وإثارة الشكوك، والبحث في النوايا.
نحن وطن جمع شتاته، وأرسى دعائمه، ووحد كلمته الملك [عبدالعزيز] رحمه الله على هدي من الكتاب، وصحيح السنة. ونحن شعب اختار هويته في مؤتمر شعبي عام ????هـ أُعْلن في أعقابه اسم [المملكة العربية السعودية]. وواجبنا -احتراما لآبائنا، وأجدادنا- الحفاظ على الكيان بهذا المسمى. وبتلك القيم التي تجمع بين الحسنيين: عمارة الكون، وعبادة الخالق، وهداية البشرية.
نريد للوطن بكل مؤسساته ذات العلاقة بتشكيل الوعي، والثقافة، أن يكون بوتقة صهر، تمتزج فيه مختلف التوجهات، والثقافات، لامجال تفتيت، وتشتيت، وإثارة للنعرات، والتحفظات، والتساؤلات.
ولأن الهوية في [المملكة العربية السعودية] ليست مُعَقَّدة، ولا مأزومة، فإن من الفضول الخوض في الإجراءات التوافقية، التي قد توائم أوضاع بعض الهويات المأزومة، إذ لكل بلد مايناسبه من الحلول.
فبعض الدول لديها تعدد طائفي، أو عرقي، ومن ثم يُفْرضَ عليها التعدد في الهوية، والمحاصصة في تقاسم الحقائب. ولا يخلصها من هذا المأزق إلا التحول إلى [العلمنة]، أو [دولة الإنسان]، كما يسميها البعض. وخير مثال على ذلك [دولة لبنان]، التي وسعت أكثر من عشرين هوية.
وواجب المسؤولين عن رعاية الهوية، والمحافظة عليها، وصقلها، أن يَحُولوا دون تصدع الوحدة الفكرية، تحت أي مسمى.
فالهويات، والانتماءات، والطائفيات، والحزبيات، والمذهبيات لاتبرز سوية، مكتملة، وإنما تنمو ببطء، وسرية. ومتى أيِّد هذا الحراك، أو ذاك، أو غُفِل عنه، تمدد، وتجذر، وأصبح من الصعوبة بمكان احتواؤه، والسيطرة عليه.
يجب أن يكون الانتماء للوطن إسلامياً عربياً، لا حزبياً، ولا طائفياً، ولا قبلياً.
فمن نطق العربية فهو عربي.
ومن شهد أن لا إله إلا الله، وأقام الصلاة، فهو مسلم.
وليس هناك مايمنع من تداول المذاهب، والآراء، والتصورات، ولكن دون انتماء، أو ولاء متمايز متناحر.
لك أن تختار، ولك أن تجتهد، ولكن ليس لك أن تنازع، أو تُنَحِّي، أو تستأثر. الكلمة الأخيرة للسلطة السياسية، عبر مؤسساتها المؤهلة، والمخولة. لابد من التسليم للمرجعية: شخصية كانت أو نصية. هذه سنة الحياة، إذ لايمكن تساوي السلطات، والقامات، فذلك عين الفوضى. لك أن ترى، ولكن ليس لك أن تفرض رؤيتك، ولك أن تنتقد، ولكن ليس لك أن تُخَوِّن المخالف، ولا أن تؤثر على سيادة السلطة الشرعية.
الاختلاف سنة أزلية، لامناص من القبول به، وترويض النفس على التعامل من خلاله، والنجاح في إدارته.
والإشكالية ليست في أن تتفاوت مواقفنا، وقناعاتنا. الإشكالية في عدم قدرتنا على إدارة هذا التنوع.
أسباب فشل الأمة أن أطيافها، وطوائفها يبحثون عن الانتصار، ولا يهتمون بالحق. يسعون للأثرة، ولا يهتمون بالإيثار. يُقْدمون على تصفية الآخر، ولايقيمون وزناً للالتقاء على أرضية القواسم المشتركة.
الإشكالية أن الكل يتصور أن قوله الصواب، وقول غيره الخطأ، والحق أن يقتصر التصور على أن المسألة لاتعدو الفاضل والمفضول. ثم قد لا يتأتى الواقع للفاضل، فيكون الأخذ بالمفضول أجدى، وأهدى.
الهوية تتأثر بهذا الصراع غير المحكم. ولقد يستفحل الصراع، ليكون صراع هويات وهمية لاتوجد إلا في الأدمغة المفخخة.
المسؤولون عن صيانة الهوية، وتنقيتها، وتربية النشء عليها، واجبهم أن يعوا هذا الصراع، وأن يدركوا أن الأمة مخترقة، وأن الأعداء لاتنام عيونهم، ولا يغفل عملاؤهم. وكم هو الفرق بين جيل مُحَصَّن، ينطلق إلى المدرسة على البراءة، والفطرة، وجيل يُتخطف من كل جانب.
أجواء البلاد مليئة بفحيح الأفاعي، وليست مهمة التربية والتعليم قصراً على التلقين، وتوصيل المادة. إن مهمتها الحماية، ومواجهة التلوث الفكري، ومنازلة الأعداء الذين يَجْرون من شبابنا مجرى الدم.
نحن أمة مستهدفة، وحين نكون في حالة حرب فكرية، أو سياسية، نكون أحوج إلى شخصنة الهوية، وتكريس مفاهيمها، ومحققاتها في ذاكرة الناشئة.
وإذ تكون الإشكالية في المفهوم، والمحقق، فإنها بلا شك كائنة في أسلوب التوصيل، والتربية.
وخلاصة القول إننا بحاجة إلى [شخصنة الهوية]، والإلحاح في تجليها قولا وعملا، في ظل تزاحم الهويات في المشاهد، والأفكار.
ولكي نمارس حقنا المشروع، فإن علينا أن نهيئ المنهج، والأداة، والمادة، والمُنفذ الكفء. وذلك كله مسؤولية السلطتين: التشريعية، والتنفيذية.