منذ أن دَرجَت ذاكرة الطفولة لدي وتلك السيدة تتنقل بين عيني وأنا أدرج أمامها كما يدرج أصغر أطفالها صديقي عصام فتحيطني وشقيقي خالد وشقيقتي مريم برعايتها وودها، ولم تكن شريفة بنت زامل الحبيل قريبة فقط لخالها عبد العزيز بن مهنا الحبيل (والدي) الذي عاملته كأبيها بعد وفاة والدها بل كانت ابنة له وصديقة ومحل رعاية له وسؤال وتتبع من رحلة الظهران في الحي السعودي القديم وقصصه ونسيجه الجميل، حيث أقامت بالقرب من خالها مع زوجها الراحل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المبارك، أو حين غادرنا مع سيدي الوالد إلى واحة الأحساء.
فأهم معالم الحياة التي قضتها العمة شريفة هي تلك الحركة الدؤوبة في صلة الأرحام وتتبعهم من إخوتها وقبل ذلك والديها ثم أقارب في شؤونهم وحاجاتهم ومواصلة ذلك دون كلل أو انقطاع، حتى كانت والله يشهد لها بذلك مدرسة في صلة الرحم والبر، وكانت من أوائل من يتردد ويغشى بيتنا الصغير لتتبع خالها ومؤانسته وتلك الممازحات اللطيفة التي يبتهج بها حين تزوره أو يزورها، وحين كانت تتردد على الأحساء في زياراتها الصيفية الموسمية فقد كانت تحولها لنشاط اجتماعي نسائي تتعقب فيه كبيرات السن وأصحاب المناسبات بالمؤانسة والود.
غير أن للعمة شريفة عهداً آخر هو من أسرار هذا البر والصلة ولعلّه من روحه الدافعة وإن كان ليس كل عابد يوفق لصلة الأرحام والأصدقاء كما عمتي رحمها الله، ففي اللوحة الأخرى كانت شريفة تتمسك بحزب الصلوات والأذكار وكان من تلك العزيمة أنها تتواصل مع صديقتها وزوجة خالها والدتي الغالية طرفة بنت الشيخ محمد المبارك رحمها الله في إنجاز الأوراد وصلوات النوافل في الليل والنهار فيتذاكرون ذلك حتى لا تخبو عزيمتهم عن الذكر والصلوات.
وهكذا عَلِمتُ سيرتها ورأيتها على مدى السنوات، حتّى إني حين استأذنت منها بجعل زياراتي بعد صلاة المغرب تشير إلى أن أتأخر حتى تقوم من النافلة بعد الفرض ولا أدري ما هي عدد الركعات لكنها كانت تواظب عليها فتكررها وتتقلب في محراب الحق وسجّادة الصلوات، وهكذا لم تختف هذه المعالم ولم تسترخ عند أم عبد الرحمن، رغم أنها تنظم أوقاتها وصلاتها وتستقبل الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات وتوزع مهام الصلات الاجتماعية وأصدقاء الحي قديماً وحديثاً والقيام بالواجبات لهم في الأفراح والأتراح.
ولأن بنت زامل انحدرت من بيوت رائدة في القيادة الاجتماعية والتوجيه ورعاية المحتاجين، فقد كان ذلك ينعكس على شخصيتها وروحها القيادية الصلبة وتحملها المسؤولية وتوجيهها لشؤون الأسرة والمحيط والأقارب فكانت حينها في قمة المسؤولية والإرادة، وذلك الرصيد من الشخصية ومن الإيمانيات الكبرى التي اختزنت في روحها من المحراب والسجادة كانت معها في طوال محنتها ومرضها العضال حتى أسلمت الروح لله الرحمن.
حين اكتشف المرض سعى لها الأطباء وأقاربها حدباً وخشية عليها ببدء البرنامج الكيماوي فرفضت وشدّدت لكيلا يعزلها عن الطاعات وسلامة الجسد المتألم لكنه قادر على أن يواصل تقلبه في الساجدين واستمطاره لرحمات رب العالمين، قَبِل عبد الرحمن وعبد اللطيف وعصام وشقيقاتهم وهم المحيطون بها كالسوار خيار شريفة التي يعرفونها وقالت لنا جميعا:
أنا في خير أنا ضيفة الله .. خلوني والحمد لله له أولاً وأخيراً.
ضيفة الله...
كم هو عميق هذا التعبير كم هو متجذر في الروح المؤمنة الراضية بقضاء الله وقدره صَبرت واحتسبت وسلّمت وواصلت الذكر والصلوات حتّى أسلمت له الروح مقبلة راضية فكانت سبابتها مرتفعة لله ووجهها يضيء وكأنه يحتفل في استقبال الملأ الأعلى.
ولأن بلدتنا الطرف هي المولد والمنشأ وهي الرمز التاريخي الاجتماعي القديم لها ولآبائها من العم زامل وأمها عائشة والجد الكبير سعد السعود الحبيل (معشي الطرفة)، فقد أوصت أن تكون في رحالهم.. رمزية عظيمة لبر الحياة والممات، ولطالما رددت علي في كل مرة:
مهنّا .. شلون الحمولة وجماعتنا أهل الطرف، تسأل وتفرح بكل تقدم هم فيه وتحزن لكل مكلمة تمر عليهم وتوجهني في الأسرة بكل رأي حكيم عميق، كما هي صلتها مع زوجها وأسرته وأهله مندمجة معهم وفيهم وكما هي سيرة بنت زامل الصديقة الوفية كريمة العطاء للجميع بروحها وموائدها.
فإن أختم فيك يا عمتي الغالية فما أعظم من أن أردد ما راهنتي عليه وأسلمتي القياد فيه، فأنتِ ضيفة الله قدمتِ إليه راضية محبة لله ورسوله وقدّمتِ بين يديه سجادة ومسبحة عامرة وفي لسان لا يغيب ذكر الله عنه، اللهم إنّ نستودعك روحها فأنت الأكرم الأرحم وبارك في أولادها وذريّاتها لتقر عينها بهم دنياً وآخرة وأمطر عليها سحائب الرضوان.