نحمد الله أن من علينا في هذه البلاد المباركة بقيادة حكيمة تحكم بشريعة الله وتتلمس حاجات أبنائها المواطنين وتحرص على توفير متطلباتهم المعيشية، ويقابلها كل أفراد الشعب بالطاعة في المعروف امتثالا وطاعة لله ورسوله، فكانت هذه العلاقة مثالاً يحتذى لكل الشعوب حكاماً ومحكومين كما قال - صلى الله عليه وسلم - «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ». أخرجه صحيح مسلم من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - فأصبحت هذه البلاد - ولله الحمد والمنة - تعيش في أمن وإيمان. ومن تتبع النصوص الشرعية وجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين الأمن والإيمان قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا استخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُم مُّهْتَدُون) وهذا الأمن لا يتحقق إلا بتوحيد الله والإخلاص له وتحكيم شريعته واجتناب المعاصي والمنكرات ومن أعظمها الشرك بالله، فكلما كمل ذلك كمل الأمن في الدنيا والآخرة، وإذا نقص من ذلك شيء نقص من الأمن في الدنيا والآخرة بمقدار ما أحدث من خلل، ومن أعظم واجبات الدين وفروضه طاعة ولاة الأمور في المنشط والمكره طاعة لله ورسوله واستجابة لأمره فبذلك يستقر الأمن وتستقيم مصالح العباد والبلاد، ومع عدم القيام بهذا الواجب يصبح الناس في فوضى لا يجمعهم على الحق جامع ولا يزعهم عن الباطل وازع، مما يؤدي لحدوث الفتن واختلال الأمن وضياع الحقوق، وقد جاءت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله ومنها:
1 - قوله سبحانه: (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
2 - ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( على المرء المسلم السمع والطاعة في ما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
3 - روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).
4 - روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك).
5 - وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأى من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السطان شبراً مات ميتة جاهلية).
6 - وفي صحيح مسلم في حديث طويل عن حذيفة - رضي الله عنه - قال، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع).
7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) أخرجه البخاري.
8 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( ستكون أثرة وأمور تنكرونها ) قالوا : يا رسول الله، فما تأمرنا ؟ قال: ( تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ) أخرجه البخاري.
9 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله ) أخرجه الإمام أحمد والبيهقي.
وقد أجمع العلماء على وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله.
1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( وأما أهل العِلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عُرف من عادات أهل السُنة والدين قديماً وحديثاً، ومن سيرة غيرهم ).
2 - قال النووي رحمه الله: ( أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).
3 - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال: ( وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن للدماء، وتسكين الدهماء) .
ومن أقوال السلف وأهل العلم في وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله.
1 - قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : ( إن أول نفاق المرء طعنه على إمامه) .
2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة على كل أحد، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق) اهـ.
3 - قال البربهاري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم انه صاحب سُنة - إن شاء الله - ).
4 - وقال الإمام الطحاوي - رحمه الله - في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة : ( ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوعليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)، ومما أحدث في هذه العصور ما يسمى المظاهرات والاعتصاماتِ وهي مُحرمةٌ من حيثُ المقاصدُ لكونها بدعةً محدثةً لا أصلَ لها في الدِّينِ وليست من أساليب النصيحة الشرعية، وهي مُحرمةٌ من حيثُ الوسائلُ بالنَّظرِ إلى عواقبها ومآلاتها من حيث إنها تُفضي إلى الكثيرِ من المفاسدِ والشُّرورِ ومما يدل على تحريمها أن هذه الاعتصامات أمر حادث، لم يكن معروفاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، وكذلك في هذه الاعتصامات خروج على ولي الأمر، والخروج على ولي الأمر لا يجوز بنص القرآن الكريم، كما أن الاعتصامات ليست طريقاً شرعياً للنصيحة، فالنصيحة وإنكار المنكر على ولي الأمر لا يكون بالخروج عليه، بل يكون بالطرق الشرعية المناسبة بالنصيحة والمكاتبة من قِبل أهل العلم، وأهل الحل والعَقد دون تشهير على المنابر أو بواسطة الاعتصامات .إضافة إلى أن التجمعات تتضمن اختلاط الرجال بالنساء، الاختلاط المحرم الذي ليس له وجه شرعي. كما أن الاعتصامات من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور، وإحداث الفوضى والبلبلة في المجتمع المسلم، و لو لم يكن في الاعتصامات إلا التضييق على الناس في طرقاتهم وإحداث الفوضى لكان كافياً في المنع فكيف إذا أضيف إلى ذلك ما تقدم من أسباب، فلا شك أن القول بالمنع وعدم الجواز من باب أولى، فالواجب على المسلم أن يتبع الحق مما دل عليه الكتاب والسنة ولا يغتر بأفعال الجهلة ولو كثروا وإذا أشكل عليه شيء فعليه بسؤال أهل العلم الذين يوثق بعلمهم وورعهم وتقواهم، فيجب الاعتصام بالكتاب والسنة وطاعة ولاة الأمور، ففي ذلك المخرج عند وقوع الفتن ويجب البعد عن كل ما يلقي ببذور الفتنة بين المسلمين، وتهييج العامة على ولاة الأمور لما قد يسببه ذلك من فساد عظيم وشر مستطير على العباد والبلاد، كما يجب على الدعاة والخطباء أن يبينوا للناس هذا الواجب العظيم نصيحة لله ورسوله وقياماً بالواجب وحذراً من الدخول في الوعيد الشديد الذي ذكره الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } ولا يخفى ما فعله مؤخراً بعض الجهلة الذين استخفوا بولاية المسلمين وتساهلوا بمخالفة إمام المسلمين والخروج عن طاعته ولا شك أن فعلهم هذا منكر عظيم ومن أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد ومن أسباب حصول الفوضى والتشتت بين المسلمين، وترك لزوم جماعة المسلمين وهذا الفعل من أسبابه الجهل بأحكام الدين وعدم الاعتصام بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} ومن أسبابه اتباع الشبهات كشأن طوائف المبتدعة فضلوا بهذه الشبهات وصارت فتنة لهم ولغيرهم. ومن أسبابه اتباع الهوى والإعراض عن الكتاب والسنة قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}، ومن أسبابه التعصب للآراء والفرق الضالة مما يحول بينهم وبين معرفة الحق بدليله. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}، ومن أسبابه الغلو في دين الله والطعن في العلماء ورميهم بالمداهنة وإساءة الظن بهم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ} ولم يستثن سبحانه وتعالى براً ولا فاجراً، فطاعة ولي الأمر من الأمراء والعلماء وترك منازعتهم هي فصل النزاع بين أهل السنة والخوارج وأيضاً من أسباب هذا المنكر المسارعة إلى التكفير على غير هدى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الرد على البكري: «فلهذا كان أهل السنة والجماعة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب عليه.. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله» وهذا الخروج عن جماعة المسلمين وعلى إمامهم هو دين الخوارج وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، سموا بذلك لخروجهم عن الجماعة ، وسموا أيضاً بالحرورية لنزولهم بحروراء في أول أمرهم وأول قرن طلع من الخوارج ظهر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل طعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قسمته ، واسمه عبد الله ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فأراد عمر - رضي الله عنه - قتله فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث في صفة الخوارج وأنهم يخرجون من ضئضيء هذا الرجل . وقد قاتلهم علي - رضي الله عنه - في موقعة النهروان فقتلهم حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الذي قتل عليًا بعد أن دخل في صلاة الصبح وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الخوارج لا يزالون يخرجوحتى يدرك آخرهم الدجال ، فقد جاء عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ينشأ نشأٌ يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، كلما خرج قرن قطع ، قال ابن عمر : سمعت رسول الله يقول : « كلما خرج قرن قطع « أكثر من عشرين مرة ، حتى يخرج في عراضهم الدجال «وقد جاءت نصوص كثيرة تحذر من الخوارج منها ماثبت في الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سيخرج قوم في آخر الزمان ، أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» .
قال الإمام البخاري : وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله ، وقال : انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ، والنصوص الواردة في ذم الخوارج أكثر من النصوص الواردة في ذم غيرهم من الفرق ، مع أن غيرهم من الفرق قد يكون أشد ابتداعًا منهم ، لأن الفتنة بهؤلاء أعظم من غيرهم لأن لهم إيمانًا وحالاً ظاهرة من الصلاح والاجتهاد في العبادة من صلاة ، وصيام ، وتلاوة قرآن وما إلى ذلك من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيغتر بهم وينخدع الجاهل بعقيدتهم ، فلذا جاء النص في التحذير منهم ، وقد وصفهم ابن عباس - رضي الله عنه - عند ذهابه لمناظرتهم فقال : « فأتيت فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ، أيديهم كأنها ثفن الإبل ، ووجوههم معلمة من آثار السجود «.
قال الآجري : « فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان الإمام أو جائرًا ، فخرج وجمع جماعة ، وسل سيفه ، واستحل قتال المسلمين ، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن ، ولا بطول قيامه في الصلاة ، ولا بدوام صيامه ، ولا بحسن ألفاظه في العلم ، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج « .
ومن شدة غلو الخوارج أنهم يكفرون أهل المعاصي ويقولون بتخليدهم في النار وهذا من جهلهم وضلالهم وقد اختلف أهل العلم في تكفيرهم فالجمهور على أنهم عصاة مبتدعة ضالون، ولكن لا يكفرونهم وذهب جمع من أهل العلم إلى تكفيرهم منهم سماحة شيخنا العلامة ابن باز - رحمه الله - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه) ومن هذا يتبين لك أخي المسلم فساد عقيدة الخوارج وشدة خطرهم على الأمة ويوجب عدم الاغترار بما يلقونه من شبه، وقد قال تعالى (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) فما تأتي به هذه الفرق المنحرفة من حجة أو شبهة إلا كان في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يكشف تلك الشبهة ويبطلها وهذا يوجب الرجوع إلى أهل الفقه والبصيرة من أهل العلم الذين يوثق بدينهم وعلمهم وورعهم، كما قال الله تبارك وتعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أمر مِّنَ الأمن أو الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)، ومما يلاحظ ويجب الحذر منه خوض البعض - هدانا الله وإيّاهم لطريق الحق - في المسائل الشرعية بغير علم، ولا تخلو أقواله أو كتاباته من المغالطات، وتتبع الأقوال الشاذة، وسوء الفهم للنصوص الشرعية، وعدم التأدب في الخطاب مع العلماء.
ومثل هذا الخوض الذي يتطرق فيه للمسائل الشرعية، وتصدر ممّن ليسوا من أهل العلم يثير البلبلة والفوضى والفتنة بين الناس، ويجعل من الناس - ولاسيما العوام والجهلة وضعاف الإيمان - من ينخدع ويغتر بمثل هذه الكتابات أو الأحاديث، وينصرف عن سؤال أهل العلم، ويتعلق بالشبهات والأقوال والآراء الشاذة التي لا دليل عليها، وفي هذا مفسدة عظيمة لا تخفى. وكما هو معلوم فإن كل صاحب هوى قد يجد من شاذ الأقوال والآراء ما يوافق هواه؛ فالواجب منع غير المختصين من الخوض في المسائل الشرعية بدون علم، حماية لعقائد الناس، وحسمًا لمادة التشكيك وإثارة الشبهات والفتن بين الناس. وبعض من يخوض في المسائل يزعم أنه إنما أراد المناقشة والاستيضاح، والجواب أنه ليس طريق ذلك إثارة الشبه أمام الناس، بل الطريق إلى ذلك هو الاتصال بالعلماء مكاتبة أو مشافهة للسؤال والاستيضاح امتثالاً لقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وأمّا من أراد الرد على العلماء فقد ذكر أهل العلم أن الذي يرد على العلماء على حالين:
1 - من عُرف بالعلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم، وأراد برده على العلماء النصيحة لله ولرسوله، وبيان الخطأ، وتأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب، فلا حرج عليه، وهو مثاب على قصده، ويجب أن يُعامل بالإكرام والاحترام.
2 - من لم يُعرف بالعلم، وظهر منه التنقص والذم للعلماء وإظهار معايبهم وقصورهم في العلم، وتزهيد الناس في علمهم، فهذا قد ارتكب أمرًا محرمًا، سواء كان هذا الرد في حضور من رد عليه، أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، ويجب أن يعاقَب ويعزَّر؛ حتى يرتدع هو وأشباهه عن هذه المحرمات.
أما الاجتهاد في الشريعة فليس لكل أحد، بل هو لأهل العلم الراسخين فيه كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)؛ فلا بد للمجتهد من العلم بدلالات النصوص، ووجوه الاستدلال، ومنهج الاستدلال، وأسباب النزول، ومقاصد الشريعة، والتمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وناسخه ومنسوخه، ومحفوظه وشاذه.
كذلك فإن بعضهم يجعل مجرد الخلاف في مسألة دليلاً على جواز الأخذ بأي رأي، وهذا مسلك خاطئ، يقع فيه كثير من الناس؛ فليس كل خلاف له حظ من النظر، فالمعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنَّة، والمستدل ليس كل أحد بل هو العالِم الرباني أو طالب العلم العالم بالأحكام وطرق استنباطها من الأدلة، أمّا المقلد فمذهبه مذهب العالِم الذي يستفتيه - كما تقدم - وإذا كانت المسألة من الأمور العامة التي تتعلق بالأمة جمعاء كأمور الحرب والسلم والجهاد والمعاهدات ونحو ذلك فقد جعل ولي الأمر للناس هيئة مختصة في الإفتاء، فالفتوى منها ترفع الخلاف لمصلحة توحيد الأمة وعدم تفرقها، ولا يسوغ بعد ذلك الخروج عن رأيها بحجة أن المسألة خلافية؛ لأن ذلك من شأنه أن يُدخل الأمة في الفوضى والاختلاف كذلك فإن البعض قد يستدل بالعقل في أمور قد حسمها الشرع، والعقل وسيلة لفهم النصوص الشرعية وليس دليلاً مستقلاً، فالاستدلال بالنصوص الشرعية لا بالعقل والرأي المجرد، ولا يجوز تقديم العقل على النص الشرعي.
كذلك فإن البعض يتخذ الجدل والمناظرة وسيلة لترويج ما عندهم من أفكار وشُبه، وأهل الحق لا يلجؤون للخصومات والمراء والجدل، بل يبينون الحق بدليله، وإذا وصل الأمر إلى حد المراء والتخاصم كفوا ألسنتهم وأقلامهم.
وأخيرًا، يجب أن يُعرف لأهل العلم فضلهم، وأن إجلالهم هو من إجلال الله تعالى، والذب عنهم هو ذب عن شريعته - عز وجل - لأنهم ورثة الأنبياء، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، وبهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ والضلال، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدي بها الناس، إذا ظهرت أبصروا، وإذا انطمست تحيروا، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه وأن يثبتنا على دينه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين وإخوانه وأعوانه لما فيه خير وصلاح البلاد والعباد إنه سميع الدعاء قريب الإجابة.