ليست دولة صنعتها الصدفة، أو أقامتها الظروف، أو منحت لأهلها دون كد وجهد، بل هي مثال الإصرار والتضحية والشجاعة، عندما تذكر السعودية، نستذكر عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ونستذكر رفاقه أجدادنا، وقصص التأسيس مليئة بالعبر وبكل معاني الحب والانتماء لأرض أنجبت البواسل الشرفاء، الذين زادهم شظف العيش آنذاك زهداً في متاع الدنيا الفاني، وزادهم إيمانهم الديني العميق إصراراً على التضحية لتبقى بلادهم متمسكة بثوابتها التي لا تتزعزع.
84 عاماً مرت على إعلان الدولة بمسماها وكيانها، وها هي اليوم الأكثر أهمية في منطقتها، والأكثر قوة وتماسكاً في عالم مضطرب يموج بالمتغيّرات والأحداث المؤلمة، وهنا يجب أن نذكّر بكل الفخر سنوات البناء والنهضة، وللتنمية قصص عظيمة ورائعة، نستذكر حنكة المؤسس الذي قدّم وصايا خالدة أسست لثقافة الحكم السعودي، وعمل بمقتضياتها أبناؤه بكل صدق وإخلاص، ومنها في الشأن الداخلي هذه الوثيقة الخالدة: لم تخلقه القوى العظمى، ولم تفرضه إرادة غير إرادة الله أولاً ثم إرادة أبنائه الذين بايعوا رجلاً منهم، حكم أجداده بالعدل مستلهمين من الدين الإسلامي قيم الحكم الرشيد، رجل بأمة وأمة في رجل هو عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل -رحمه الله- الذي خاطب شعبه ذات يوم من أيام النهوض بالدولة قائلاً: «على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه أن يتقدّم إلينا بالشكوى.. وعلى كل من يتقدّم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق، أو البريد المجاني على نفقتنا... وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي وأحفادي وأهل بيتي».
كما أصدر أمراً سامياً برقم 3703 في 25-9-1371هـ- 1951م نشرته الصحف آنذاك ونصه: «تعميم إلى كل من يطلع على أمرنا هذا من أمراء وموظفين، والمعني بهم بصورة خاصة مأموري البرق والبريد في سائر أنحاء المملكة، حيث بلغنا أن بعض شكايات ترفع لنا، ولذلك نأمر بما يأتي:
أولاً: كل شكاية ترفع لنا عن طريق البرق والبريد من أي شخص كان يجب أن ترسل لنا بنصها بدون أي تحريف، ولا يجوز تأخيرها، ولا إخبار المشتكى منه سواء كان أميراً، أو وزيراً، أو أكبر من ذلك.
ثانياً: من ثبت بأنه أخّر، أو أوقف إيصال شكاية لأي سبب من الأسباب يعتبر مسؤولاً يجازى بالعقوبات الصارمة.
ثالثاً: كل مأمور برق مُنع، أو نُبّه عليه من أي جهة من الجهات، بتوقيف إرسال أي برقية لنا، عليه أن يرفع شكواه لنا حالاً، ونحن نحقق في شكايته، ويجازى المخالف لأمرنا.
رابعاً: سنبعث من حين لآخر هيئات تفتيش تمر على سائر مراكز الدولة للتحقيق في كل ما ذكرنا في أمرنا هذا.
خامساً: ينبغي على كل أمير من أمرائنا في سائر أنحاء المملكة أن يُعلن بياننا هذا على سائر الرعية بسائر طرق النشر المعتادة، ففي الحجاز يعلن في الصحف، وفي الملحقات يعلن بحضور الأمير والقاضي في مسجد الجامع، ويخبر سائر الرعايا أن بابنا مفتوح لكل ذي ظلامة، وإذا حيل بين أي شخص، ورفع شكواه إلينا فسيلقى المظلوم لا شك نصره، وسيلقى الظالم ما يستحق من العقوبة.
وبهذا نبرئ ذمتنا أمام الله بشأن الراعي والرعية، فنسأل الله أن يتولانا جميعاً بتوفيقه ويحوطنا برضوانه». ويتضح مما سبق في كلمات المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- نهج الحكم الذي أسس له، وأنه ملك لا يفصل نفسه أو أسرته عن شعب هو منهم وهم قريبون منه، لا ظلم في نهجه ولا تعد ولا تفرقة بين أمير ومأمور، وفي كل كلمة من كلماته، وفي كل وثيقة من الوثائق يرى فيها القارئ والباحث، أن هذا الرجل أسس لما يمكننا تسميته «ثقافة الحكم السعودي» وهي ثقافة جمعت الدولة بمدنيتها وتحضرها، والتعامل الإنساني بكل معانيه النبيلة، والتدين الصادق، والحزم عند اللزوم دون إفراط أو تهميش للعدالة، والحفاظ على الترابط الاجتماعي والتأكيد على أن بيت الحكم جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي.
وكثيرة هي الوصايا والخطب التي تعطي صورة واضحة عن الفكر السياسي لمؤسس الدولة رحمه الله، ولا بد أن نستذكر مجهودات الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله- والذي يعتبر مؤسس النظام الإداري الحديث للدولة من خلال مجلس الوزراء وتأسيس الجامعة والمستشفيات والتوسع في التعليم العام، وبعده الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله- الذي توسع في ما بدأ سلفه الملك سعود في مناح مختلفة وأهمها التعليم وخصوصاً تعليم الفتاة السعودية، وكذلك عمله الجاد لوضع السعودية على خارطة السياسة الدولية في وقت بالغ الحساسية، وأسس - رحمه الله- لقوة عسكرية حديثة أمنياً وعسكرياً، وأطلق دعوة التضامن الإسلامي معزّزاً المكانة الكبيرة في قلوب المسلمين.
وبعد رحيل الملك فيصل - رحمه الله- جاء عهد الملك خالد - رحمه الله- الذي تميز بالحراك التنموي، وبطفرة اقتصادية كبيرة، وتوسعت الدولة في المشروعات الاقتصادية، وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله- شهدت الدولة نقلة حضارية كبرى في جميع المجالات، وفي عهده أقرّ النظام الأساسي للحكم ونظامي المناطق ومجلس الشورى، والذي أعطى دفعة كبيرة للدولة، وكذلك التوسعات الكبرى في الحرمين الشريفين، ولا ننسى المواقف السياسية الحاسمة التي اتخذها لصالح الوطن والخليج والأمتين الإسلامية والعربية.
ونعيش اليوم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي نراه متمثلاً في الإنجازات العملاقة، في إصلاحات كبرى وقرارات مهمة، وارتفاع كبير في عدد الجامعات من 8 إلى ما يقارب 30 جامعة، وتنمية لمسها الجميع في كل المناطق والمحافظات، وقرارات تتمثّل في تطوير الشورى وإدخال المرأة في المجلس ورفع عدد أعضائه، وتوسعات هي الأكبر تاريخياً في الحرمين، ومشاريع للنقل العام، وتأسيس مشاريع غير مسبوقة في مجالات مختلفة اقتصادياً، وكذلك المواقف السياسية الحكيمة التي حفظت البلاد - بفضل الله- من الرياح العاتية، كما أن لهذه المواقف السياسية صدى في كل الأقطار، مما عزَّز مكانة هذه البلاد.
لا يمكنني حصر المنجزات، ولا تعدادها، ولكن الوفاء لكل ملوكنا الكرام دفعني لذكر سمات كل عهد من عهود الخير والنماء، لأن في كل عام من أعوام البناء لدينا قصة حب وكفاح وعطاء.
حفظ الله بلادنا من كل شر، وأسأل الله أن يديم علينا الأمن والاستقرار.