لابد أن للإرهاب الأمني الذي نعاني منه منابع وروافد تغذيه، بعضها مذهبي إقصائي أو ثقافي تربوي وبعضها اقتصادي، إلى آخر التغذيات المحتملة.
لكن هل من تعريف للإرهاب، ما هو الإرهاب؟. لابد أن التعريف يشمل منطقياً كل قول أو عمل، أوهما معاً تكون نتيجته (نتيجتهما) الإضرار بمصالح الناس عن عمد، مثل إرباك حياتهم البدنية أو الفكرية، أو إعاقة طموحاتهم المعيشية المشروعة أو تهديدهم في قدرتهم على التعايش المشترك في شتى مجالات الحياة. واحد من هذه الأضرار، في حالة الفعل أو القول العمد، قد يكفي لكي يصنف كإرهاب، ولكي يسمى الممارس له إرهابياً في ذلك المجال.
الإرهاب الأمني لا يحتاج إلى تعريف، بالرغم من أن الاتفاق على مقاومته يختلط أحياناً بالتظاهر في العلن مع تشجيعه في الخفاء.
واضح أن المقصود بالنقاش هنا إرهاب من نوع آخر، ينطبق عليه مسمى «الإرهاب العقاري». الإشكال في التسمية، بمعنى قبولها من عدمه قد يعود إلى تمتع هذا الإرهاب بتغطية قانونية كافية، مما يجعله مقنناً وغير مباشر، فلا يستطيع أحد تجريمه إلا بعد موافقة من أوجدوه وقننوه. التوقف الطوعي عن ممارسة الإرهاب العقاري من قبل من أوجدوه أمر مستبعد، لأنه إحدى وسائلهم الأقوى للوصول إلى النفوذ والمال، علاوة على أنهم يجادلون في الاعتراف بالأضرار التي يلحقها بالناس والمجتمع والدولة.
الدراسات عن الإرهاب الأمني كثيرة، ومسيرته التاريخية والفكرية معروفة، أما الإرهاب العقاري فلا توجد دراسات هادفة ومعمقة عن مسيرته التاريخية، كيف بدأ وإلى أين وصل وما هي النتائج، ولماذا تفشل محاولات التعامل معه لجعله أكثر وطنية وإنسانية وأقل تهديداً للمجتمع والدولة.
كيف بدأ الإرهاب العقاري؟. قبل الطفرة الاقتصادية الأولى كان سعر المتر الواحد في المدن الكبرى لا يتعدى عشرات الريالات في الأحياء التجارية والسكنية الراقية، وأقل من ذلك بكثير في أطراف المدن. الطفرة الاقتصادية الأولى ضخت الأموال في السوق، وانفتح باب الحصول على قطع صغيرة من الأرض كمنح من الدولة، وصدر مرسوم ملكي عام 1394 هـ بتأسيس صندوق التنمية العقاري، لإعطاء قروض بناء طويلة الأجل وبدون فوائد. هكذا بدأ السباق بين المواطنين للحصول على سكن خاص بمواصفات حديثة حسب العقلية والإمكانات. في نفس الوقت الذي حصلت فيه نسبة محدودة من المواطنين على المنح الصغيرة المجانية بدأت تتشكل هيكلية المتاجرة بالعقار لجعله سلعة استثمارية غير إنتاجية ولكن أرباحها تفوق أي استثمار انتاجي في البلد، وبما يتعدى كل أنواع الأرباح الربوية.
بالتوازي مع تقديم المنح الصغيرة حصل كبـار نافذون محسوبون على الحكومة والدولة والوجاهـــة الاجتماعية على اقطاعيات واسعة من الأراضي في المراكز الحضرية، ولم تشترط الدولة على هؤلاء الكبار الممنوحين بالمجان، أن يحيوها سكنياً خلال فترة زمنية محدودة مثلما يشترط في إحياء المنح الزراعية.
النتيجة كانت غير منطقية وغير عادلة، لأن القلة من النافذين حصلوا على ما لا يحتاجون ولا يستحقون، ثم باعوه لسماسرة العقار وقبضوا الملايين. تجار العقار وسماسرته تحكموا سريعاً في السوق وطبلوا للمساهمات العقارية لتحقيق أرباح خيالية. في النهاية هرب المواطن البسيط إلى خارج التجمعات السكنية للحصول على قطعة صغيرة في الصحراء بسعر معقول. لم يعد لا المواطن البسيط ولا متوسط الدخل يستطيع الحصول على قطعة صغيرة من الأرض حتى بعد سن التقاعد. سعر المتر في الصحراء أصبح أغلى من سعر الذهب، وفي الداخل أغلى من الألماس والبلاتين في البورصات العالمية.
هذا ما أصبح عليه الوضع العقاري الحالي، صار كابوساً يضغط على ثلاثة أرباع المواطنين السعوديين، وتتحكم فيه شبكة مرابحات وعلاقات تنفيع تبادلية لا تريد التفكير في النتائج المحتملة لهذا الوضع الاجتماعي الخطير.
لا يوجد شك في إدراك القيادة السياسية الحكيمة لخطورة الوضع الوطني السكني الظالم، ولانسداد الآفاق بسببه أمام الشباب في الوصول إلى الزواج والإنجاب والاستقرار في المسكن الخاص. إيجار شقة صغيرة في سوق العقار ينهب من المواطن ثلثي دخله السنوي.
الواضح أن محاولات الدولة لإيجاد الحلول يقابلها تلكؤ وتسويف ودحرجة للبت في الأمر من سلطة إلى أخرى. المواطن يعرف يقيناً أن التعطيل متعمد، وأن وراءه شخصيات نافذة محسوبة على الحكومة والدولة والمجتمع الوجاهي، تسيطر على الاقطاعيات الضخمة وتتحكم في مفاصل العقار السكني بالتعاون مع سماسرة العقار.
هل يمكن لمثل هذا الوضع أن يسمى إرهاباً للمواطن في استقراره المعيشي وولائه لحكومته ودولته ووطنه، وهل يمكن أن يساهم هذا الوضع كرافد محتمل في تغذية الإرهاب الأمني الذي نتعامل معه بكل ما نمتلك من إمكانيات؟.
إن كانت الإجابة بنعم فلابد من تجفيف منابع الإرهاب العقاري أسوة بالإرهاب الأمني.