عندما نشاهد برامج عما يجري تطبيقه في ما يُطلق عليه بدولة داعش من فهم ضيق وأحادي للدين الإسلامي، تتبادر أسئلة كثيرة عن الذي أوصلنا لهذه المرحلة، وكيف تغير الفهم الإنساني لرسالة التسامح في الدين الإسلامي إلى هذه الدرجة العالية من الوحشية، ولماذا تحول الدين إلى حاكم مستبد يفرض أوامره ونواهية بقوة السلاح على الإنسان؟، وكيف أصبحت المقاصد الإسلامية السمحة تُختزل في مظاهر فرض غطاء الوجه للمرأه، وفي إغلاق المحلات التجارية أثناء الصلوات بقوة السلاح؟..
تتبادر أكثر من علامات إستفهام عن جدوي دعوات الخلافة التي تُفرض بالقوة المفرطة في الوحشية، ولماذا اختفى أول دستور مدني في التاريخ من أحاديث الوعظ المعاصر، ودستور المدينة كتبه رسول الله علية الصلاة والسلام، ولم يأت بعد اجتهاد فقهي متأخر، وقد اعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني والذي كان يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرون والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، ويتصدى بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة.
كان ذلك الدستور فيه إقرار لجميع الفصائل، وصارت المدينة المنورة بسببه دولة وفاقية حاكمها الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية بمفاهيمها السامية تكفل جميع الحقوق الإنسانية، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل، والتساؤل لماذا يختفي ذلك من الفهم العام عند علماء التطرف الديني المعاصر، وكيف تم استبدال تلك المفاهيم عبر العصور بتلك الوحشية التي تضع حد السلاح على أرقاب المسالمين..؟
حوى دستور المدينة اثنين وخمسين بنداً، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وغيرهم، وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ولكن كيف غاب هذه الإنجاز الإنساني الكبير عن إجتهادات العلماء المسلمين في هذا العصر، وكيف غاب عن إرث أهل السنة والجماعة!
وكيف غابت البراغماتية السياسية عند علماء الدين المعاصرين؟، كما حدثت في صلح الحديبية، وذلك عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً مخاطباً ممثل قريش، فدعا الكاتب، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهم.
وكيف غاب التسامح عند الإسلاميين ورسول الله عليه أفضل الصلوات والسلام ؟، هو من أعلن مبدأ العفو بعد فتح مكة، عندما أعلن تسامحه مع مشركي قريش في مقولته الشهيرة اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولم يقتلهم، وهم من حاولوا قتله في بداية الأمر، كيف تغيب هذه المبادئ العظيمة عن فهم المسلمين للدين، ولماذا يحاول بعض علماء الحديث إضعاف هذه المقولة الخالدة، والتي كانت يوماً ما ضمن مناهج التعليم..
أخيراً، لماذا يغيب عن الفهم المعاصر تلك المعاني الحضارية في دستور المدينة؟، ولماذا تغيب البراغماتية السياسية كما نفهمها من صلح الحديبية، ولماذا يتم اغتيال التسامح في السيرة النبوية، واستبدالها بفهم يكرّس الوحشية والاستبداد الدموي في الزمن المعاصر.. في نهاية الأمر لن أتوقف عن البحث عن إجابة شافية: لمصلحة منْ يتم تقديم الإسلام في الزمن الحاضر على أنه حاكمية استبدادية مطلقة، ويملك حقها الحصري أقلية لديها قابلية ارتكاب أبشع الجرائم باسم الدين الحنيف..؟!