قبل يومين سعدت بدعوة الإعلامي والكاتب الاقتصادي الأستاذ راشد الفوزان لمناقشة التحولات في صناعة الصحافة وتأثيرها على المؤسسات الإعلامية التقليدية في برنامجه الاقتصادي الرصين بموضوعية، كان مجمل الحديث يرتكز حول قراءة مستقبل الصحف الورقية في خضم التحولات التقنية وأبعادها الاقتصادية المحيطة بصناعة المحتوى الإعلامي، قلت في حديثي للصديق راشد: إن أحكام الموت والحياة في الصناعات دائماً ما يطلقها المنبهرون بتحولات السوق بعيداً عن فهم قواعده الأساسية!
***
لا أحد يتجاهل انحسار سوق الصحافة الورقية وتباطؤ أو عطلة عجلة نموها بعد ظهور تقنيات المحتوى الإعلامي الجديدة، لكن الخلاف مع مطلقي صيحات الموت والفناء والتي تعبر من وجهة نظري عن حالة انبهار أكثر منها تقييم موضوعي لقواعد السوق، منذ عام 1970 وأدبيات سوق التقنية في مواجهة الإنتاج الورقي تتحدث عن مكاتب بلا أوراق... اليوم يسهل رصد التأثر في استخدام الورق في المكاتب لكن ما يزال الورق حاضرا ومؤثرا حتى في قلب مكاتب شركات التقنية التي تحاربه!
***
كثيراً ما يسوق المبشرون بموت الصحافة الورقية الضغط الذي تواجهه المؤسسات الإعلامية بتقليص مساحة المبيعات والاشتراكات مدفوعة الثمن واتجاهها إلى تقديم الصحف مجانا بطريقة أو بأخرى كدليل دامغ على اقتراب موتها ورحيلها... غير أن هذه القراءة لإشارات تحولات السوق بعيدة تماماً عن فهم قواعده، ففي مثل هذا التحول إشارة أكثر وضوحاً إلى مساحة المرونة والمناورة التي تملكها المؤسسات الإعلامية لمواجهة ضغوط المنافسة والتحولات في الصناعة، وإلا فإن منتج القنوات الفضائية الأكثر كلفة ما يزال في الغالب وفي القنوات الفضائية الناجحة يقدم مجانا منذ إنشائها.
***
في عام 1830 ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى بـ The penny press والتي كانت استجابة لتحول جذري في السوق دفع الناشرين إلى عدم الاقتصار على إنتاج صحف مرتفعة الثمن وتقديم نسخ يومية بأسعار منخفضة تلائم الدخل السائد آنذاك، تلك المرونة كانت استجابة إلى ارتفاع الدخل النسبي وتطور صناعة الإعلان ودخول الاقتصاد مرحلة الإنتاج الكثيف mass production والذي كان يستلزم استهلاكا كثيفا بالمقابل، وما نشهده الآن من تحول الكثير من الصحف إلى أن تكون مجانية هو استجابة لتحولات السوق واستثماراً لمرونة الصناعة التي يعلم أربابها أن الفاصل فيها ليس في بيع النسخ وإنما حجم الإعلان وثقة المعلن!
***
شواهد الموت والحياة كثيرة في الصناعات فالبريد الإلكتروني الذي يستطيع اليوم تحميل كل وثيقة لم يلغِ البريد العادي والممتاز وإن كان أثّر عليهما، وكذلك الإذاعة والتلفزيون... والصحافة الورقية حتما ليست بعيدة عن هذا الواقع، قبل أيام كنت في أستراليا لحضور اجتماعات وزراء مالية ومحافظي مجموعة العشرين واستوقفتني صحيفة ورقية أسترالية لم أستطع أن أثنيها لأنها تتجاوز المائة صفحة... فهل تقنيات المحتوى الجديد لم تصل أستراليا بعد!
***
طوق النجاة الذي تتعلق فيه الشركات في كل الصناعات لمواجهة تحولات أسواقها هو الإبداع والابتكار المستند إلى فهم قواعد السوق، في إحدى رحلاتي استوقفني معرض فاخر لبيع أجهزة هاتف جوال مصنعة يدوياً، كان أرخص جهاز في ذلك المعرض الفاخر بـ 24000 ألف ريال وكان يتطلب الحصول على بعض الأجهزة الانضمام إلى قوائم الانتظار، أنا على يقين أنه ومنذ ظهور الآلة والإنتاج الكثيف كانت كل أدبيات السوق تدعو مثل هذا المشروع إلى الاستسلام والموت لكن فهم قواعد السوق والإبداع والابتكار جعلته في ناصية أكثر الأسواق فخامة، حكاية هذا المشروع درس للمؤسسات الإعلامية على فهم قواعد السوق وتبني نهج الإبداع والابتكار ورد بالغ على حانوتية الصناعات الذين يبشرون بموتها عند كل تحول.
***
اليوم لابد أن نتجاوز معركة ذات الأوراق للتركيز على الإبداع والابتكار والفهم الأعمق لقواعد السوق،. يقول جو كوينان الكاتب في صحيفة الوول ستريت في حديثه لمواجهة المشانق التي علقت للكتاب الورقي بعد ظهور تقنيات الكتب الإلكترونية: «الكتاب المطبوع الورقي سيظل مهما لمن يبحثون عن المحتوى فقط ويهتمون به بعيدا عن الوسيلة» ويقول كاتب أمريكي ساخر: «ستموت استخدامات الورق حين لا تحتاج الأجهزة إلى بطاريات!»