عاش العالم في القرن الماضي حرباً أيدلوجية اقتصادية بين الشرق والغرب. فهي وإن خمدت نارها، إلا رماد حطامها الفكري ما زال باقياً يغشى العيون. ففشل الاشتراكية المروع ودخول تعديلات كثيرة على الرأسمالية، ترك فراغاً تنظيرياً لمفاهيم الأسواق والإنتاج، لم يلتفت منظرو الاقتصاد لها، في انطلاقتهم وراء تطوير النماذج الرياضية والإحصائية. وهذا قد سبب غلبة التخصصات الدقيقة على علوم الاقتصاديين، مما أحدث هذا ضياعاً لفهم المفاهيم الاقتصادية الأساسية التنظيرية عند النخب الاقتصادية فضلاً عن عامة الناس. ومشاكل الاقتصاد الكبرى المستعصية متشابكة في أصولها وفروعها. والفهم العميق لهذه المشاكل، لا يمكن تحقيقه ما لم يفهم الوسط الاقتصادي وكذلك عموم الناس هذه المفاهيم. فالفكر الإبداعي والاختراعات، وإن كانت تُنسب لشخص واحد، إلا أنها في الواقع نتيجة لأفكار المجتمع من حوله، استطاع هذا المفكر أو المخترع الربط بينها.
ولعل كتابي، الذي سيصدر قريباً، يكون أول محاولة لفتح البحث والتأمل والتنظير والتبيين للمفاهيم الاقتصادية القائمة اليوم، ورفع الخلط بينها. ففهم هذا مهم جداً في تصور الاقتصاد والتنبؤ به وبالتالي اتخاذ القرارات والسياسات الاقتصادية الأمثل. كما أنه مهم جداً لفهم تشريعات الأديان وفلسفة سياسات الحكم والمجتمعات الإنسانية، وفي تطوير العلم من بعد ذلك.
فلفظ الاقتصاد ولفظ النظام يتردافان أحياناً ويفترقان أحياناً أخرى عن علم أو عن خلط، عند الحديث في هذا الباب غالباً. وهذا عند التتبع، وإلا فلا توجد قاعدة مُتعارف عليها. فالنظام الاقتصادي نوعان فهناك نظام إنتاج وهناك نظام سوق.
ونظام الإنتاج نوعان: إنتاج ريعي أو إنتاج صناعي. ونظام السوق نوعان: إما أن يكون إقطاعياً أو رأسمالياً. واستخدامي لفظ الإقطاعي أو الرأسمالي هو من أجل استخدام أقرب الألفاظ المشهورة الباقية اليوم. وإلا فالنظام الإقطاعي بفلسفته المتداولة اليوم، قد انتهى قديماً مع ظهور الاشتراكية والرأسمالية. وأصل مصطلح الإقطاع جاء قديماً من اقتطاع الأراضي وبالتالي تركز تملك الثروة عند القلة. ولكن ملكية القلة للثروة هي أمر حتمي في أي اقتصاد مجتمعي. كما أن الرأسمالية قد دخلتها تعديلات كبيرة في تطبيقاتها.
ولهذا فيجب أن نحدد المعاني أولاً. وسأحدد المعاني عن طريق تحديد معنى الإنتاج الريعي والإنتاج الصناعي. وعن طريق إظهار الفارق بين السوق الإقطاعية والسوق الرأسمالية.
فالإنتاج الريعي هو الإنتاج القائم على إنتاج يَتجدد إنتاجه سنوياً أو فصلياً، أو شهرياً، إلا هذا الإنتاج المتجدد محدود الكمية والنوعية، لا يمكن زيادته ولا تطويره بشكل متواصل، كالزراعة والسياحة. فإنتاج مزرعة أو فندق أو منتجع قد يكفي لإثراء مالكها، ولكنها لن تكفي لإثراء أحفاده الذين سيتزاحمون على هذا الإنتاج (وهذا يشرح لجوء المجتمع للغزو أو تنازعه على الإنتاج المحدود فنهايته بغزو خارجي).
وأما الإنتاج الصناعي فهو الإنتاج القابل للزيادة غير المحدودة في النوعية والكمية. فطائرة وسيارة وحاسبة اليوم قد تطورت تطوراًً عظيماً خلال عقود من الزمن، وتعاظمت كمية إنتاجها تعاظماً كبيراً.
وأما من ناحية الأسواق، فالفارق الذي يفرق بين السوق الإقطاعية والسوق الرأسمالية هو في استهلاك الإنتاج لا في تملك أصوله. فكلا الاقتصادين، الإقطاعي والرأسمالي تتركز ملكية الثروة عند القلة من أفراد المجتمع. فتمركز الثروة عند القلة ليس هو العلة. إنما العلة الفارقة هي في الاستهلاك للثروة لا في امتلاكها.
ففي الاقتصاد الإقطاعي يمتلك القلة الثروة وهم الذين يستهلكونها وذلك لأن الإنتاج الريعي لا يكفي إلا لإثراء القلة (كالأجيال الأولى) ويعيش الأكثرية العاملة حد الكفاف. بينما في الاقتصاد الصناعي يمتلك القلة الثروة وينتفعون بها لحد الثراء، إلا أنهم يتشاركون مع الطبقة العاملة في استهلاكها لكثرة الإنتاج. فكثرة الإنتاج الصناعي وتطوره يعتمد اعتماداً كلياً على كثرة الاستهلاك. ولهذا فالاستهلاك يشكل معظم مكونات الناتج المحلي للدول المتقدمة صناعياً. ففي أمريكا مثلاً تبلغ نسبة الاستهلاك أكثر من 70 % من الناتج المحلي. والآلة والتكنولوجيا قادرة على تعظيم حجم العرض، بخلاف الأرض التي هي رحم الإنتاج الريعي. والطلب هو الذي يخلق العرض في السوق الرأسمالية، وله أنظمته المعروفة بخلاف السوق الإقطاعية. (في أقصى الإقطاع العرض عمودي والطلب أفقي. والتغير في الأسعار يكون بتحرك المنحنى وليس على المنحنى، كالاشتراكية وستأتي).
والأصل الغالب والذي يسير طبيعيا موافقا لخلق الله للسوق هو أن الإنتاج الريعي يُنتج سوقاً إقطاعية. والإنتاج الصناعي ينتج سوقاً رأسمالية. ولا يمكن استدامة خرق هذا التلازم إلا بتدخل حكومي أو بفرض نظام آخر يفسد الاقتصاد فيمنع استدامته، كالاشتراكية. ففي الاشتراكية، الدولة هي من يمتلك الثروة كلها.وهي التي تستهلكها بينما يعيش المجتمع حد الكفاف. فالاقتصاد الاشتركي هو إنتاج صناعي تحكمه سوق إقطاعية وهذا جمع معاكس لخلق الله للسوق، فما كان له أن يدوم.
وتوجد اليوم اقتصاديات ريعية قائمة على الزراعة أو السياحة ويقال عنها إنها رأسمالية، ولكن هذا كان لتمييزها عن الاشتراكية.
وهذا أحد الشواهد على الرماد الفكري المُهمل الذي أشرت إليه في أول المقال. وتبعيات هذا على فهم المصطلحات وتبعياته، شاهد على الخلط الذي أشرت إليه.
وقد يقال إن الصين، بسبب تصدير الإنتاج، لا تبلغ نسبة الاستهلاك المحلي فيها كنسبة الدول الصناعية.
والصين وأمثالها من الدول الصناعية الناشئة، ينظر إليها باعتبار مرحلتها التي تعيشها، وهي بناء البنية التحتية الصناعية.
فواقع الصين اليوم يختلف عن واقعها في عصرها الإمبراطوري الإقطاعي. وذلك بأن المُنتج الصيني المالك للثروة، لا يستهلك إنتاجه كاملا اليوم، لعظيم حجمه. وهذا بخلاف أصحاب الثروة في زمن الإقطاع في الصين.
إلا أن صاحب الثروة الصيني يعود فيستخدم ثروة صادراته، لزيادة الإنتاج وتطويره والتوسع فيه. وهذا حقيقته مشاركة أفراد المجتمع في استهلاك ثروات الملاك.
فزيادة الإنتاج تتطلب عمالة وتوسعاً في المصانع مما يقدم لهم العلم والخبرة المتقدمة، وهذا لوحده أعلى بكثير من حد الكفاف الذي كان يعيشه المجتمع العامل في الصين.
كما أنه يرفع أجورهم مما يشكل الطبقة الاستهلاكية في الصين. وهو الذي يحدث سريعاً جداً الآن. ففي العقد الماضي تضاعفت نسبة الاستهلاك المحلي الصيني من الناتج المحلي أكثر من ثلاثة أضعاف.
وأخيراً لكيلا يتشوش البعض، فاقتصاديات الموارد الطبيعية كالاقتصاد البترولي، مختلف عما ذكر هنا. إلا أن الأشياء كلها مرتبطة ومتشابكة فهماً وتطبيقاً.