يسكن رأسي الكثير مما يمكن أن يقال أو يطرح للنقاش على الورق لأجل قارئ عابر أو قارئ صادق حريص مهتم بكلِّ ما يطرح هنا وهناك، لكن جاءت حادثة غرق الطفل ووالده في شارع التحلية في جدة لتكتسح كل الأفكار والأوراق المحيطة بي والساكنة في رأسي ولتبقى هي الأهم والأكثر وجعًا، تلك الحادثة التي بلغت علمنا جميعًا بكلِّ ما فيها من فجيعة وقسوة صنعها الإهمال واللا مبالاة والتفريط فيما يشكل منتهى الخطورة وهل بعد الموت غرق في المياه الآسنة خطورة أو فجيعة؟!
علمًا أن هذه ليست هي الحادثة الأولى التي يتسبب فيها الإهمال بحادثة مؤلمة مثل هذه يذهب ضحاياها أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهَّم وجدوا في ذلك الموقع في لحظة غفلة وتجاهل وتساهل من قبل المسؤولين عن وسائل الأمن والسلامة لحماية المواطنين العابرين بشكل عام وعن المسؤولين عن تغطية وتأمين فتحات الصرف الصحي على وجه الخصوص وهم أمانة مدينة جدة أولاً والمركز التجاري ثانيًا.
كان يمكن أن أتجاوز هذه الحادثة لكثرة من أنكروها وتحدثوا حولها سواء كانوا كتابًا أو كاتبات أو نشطاء حاضرين على وسائل التواصل الاجتماعي لكنني لم استطع، تبدو الحادثة أمام عيني بكلِّ قسوتها وألمها، أتخيل لوعة الأم وفجيعتها في تلك اللحظة وهي ترى زوجها وصغيرها يغيبان عن عينيها في لحظة واحدة معًا ليصبحا في عالم آخر، لم يكن موتًا عاديًا لكنه موت قهر وحسرة واختناق بتراخي الآخرين وتكاسلهم وتفريطهم في حمل الأمانة الملقاة على عاتقهم.
هذه الحادثة تعيد إلى أذهاننا حوادث كثيرة مشابهه أشدّ وأنكى أو أدنى، يبدو هذا التفاوت في مدى تأثيرها وإعداد ضحاياها، ما بين حادثة سيول جدة ومن ثمَّ حريق مدرسة البنات في جدة أيْضًا عدا حوادث أخرى..
هذه الحادثة تطرح تساؤلات شتَّى وتنتظر إجابات عاجلة وإلى اتِّخاذ إجراءات وتدابير تجعلنا نضع توفير وسائل الأمن والسلامة للمواطنين أينما كانوا نصب أعيننا وفي قائمة اهتمامنا، وسائل الأمن والسلامة لا بُدَّ من توفيرها والتدريب عليها في المدارس والمؤسسات وفي شتَّى مواقع العمل، يشمل ذلك توفير أغطية جيدة ثابتة لفتحات الصرف الصحي لكيلا تكون مصدرًا للخطورة على حياة العابرين وهذه تأتي في أولويات السلامة في المدن المتحضرة. فهل تعد مدننا ضمن المدن المتحضرة الراقية أم أننا ما زلنا نتحدث ونناقش وننشئ المشروعات العملاقة لتكون حاضرة على شاشات التلفزيون وعلى صفحات المجلات المصقولة الملونة التي تحكي عن تطورنا وإلى ترديدنا طوال الوقت لعبارة: أين كنا وكيف أصبحنا؟!، ثمَّ نردف ذلك بإجابة تقليدية: لا.. أبدًا ليس ثمة شبيه لنا ليس مثلنا على وجه الأرض، تبدو هذه الإجابة جاهزة معبأة منتهية الصلاحية، إن لنا أن ننظر إلى الحقائق تحت ضوء الشمس وأن نضع المراقبة والمحاسبة في قائمة اهتماماتنا حكومة وشعبًا.