أكثر من يشعر بفداحة الخيبات هم معتنقو منهج «عطاء بلا حدود» فهم يحملون في أذهانهم فكرة تواجد الامتنان حواليهم باستمرار، كما أن هؤلاء لا ينتظرون الرد ولا يبتغون عطاءً من أحد، بقدر ما يستمتعون بالمشاعر التي تحيطهم وقت العطاء، حالة الانتشاء التي يعيشها الشخص المعطاء، هي حالة من الادمان لا يستفيق منه أو يشعر بأن عطاءه هو حالة مرضية إلا عندما تتوالى الصفعات لأن هذه النوعية من البشر لا يفيق من الصفعة الأولى، إنما يبرر لنفسه أن العيب ليس فيه إنما فيمن تنكّر لجميله، لذا يستمر ويستمر إلى أن يجد أن هذا العطاء قد أصبح ضده وليس معه، وأنه لن تتحقق له اللذة التي كان يعيشها سابقًا.
لكل شيء حدود، كل المشاعر الانسانية والسلوكيات الإيجابية لا بد وأن يكون لها حدود، هذا إن نحن كنّا أكثر واقعية وعلمنا أن لكل شيء نهاية، ولأن النهايات قادمة لا محالة فلا بد أن نتعلّم دروسًا حياتية لا تجعلنا أناساً سيئين، بل لكل شيء عندنا مقدار، فبقدر عطاء الانسان تكون حساسيته تجاه المواقف الصادمة، لذا إن هو وضع حدودًا لعطائه فهو بذلك يضع حدًا لآلامه.. البشر ليسوا جميعًا أنقياء، ولا يفترض أن يكون التعامل بحسب رؤيتنا نحن بل بحسب المحاذير المستقبلية والجروح التي قد لا تبرأ.
لكل شيء حدود إلا في عاطفة وعطاء الأم لأبنائها، لذا يصاب الآباء بالخيبات إن لم يحصدوا ثمار عطائهم، أو لم يحصلوا على القدر الذي كانوا يتوقعونه من بر أبنائهم والوقوف «فرحًا» على الحصاد المنتظر، فأقرب الناس دائمًا هم سبب الخيبات عندما يتصرفون عكس توقعاتنا.
مشكلة العطاء بلا حدود هي أن المُعطي ينسى ذاته، يصل إلى مرحلة إنكار الذات لأجل الآخرين، لا يهمه سوى سعادتهم فيصدم بأنهم قادرون على العيش بسعادة دونه أو بعيدًا عنه، تأتي النتائج عكس التوقعات عندما يجحد المُعطي ذاته لأجل غيره، ويتذكرها عندما تتجرّد حياته ممن كان سبب سعادته وهو الشخص الذي يأخذ منه، وكان لا ينتظر منه الرد سوى أن يبقى ليمنحه متعة العطاء، فيرحل ويظل مدمن العطاء في حسرته لأنه توقف عن هذا النزف النبيل.
دائمًا يحتاج الإنسان أن يتذكر نفسه حتى لا يضيع في دهاليز العطاء بلا حدود، أن يحب ذاته ويمنحها الوجود ويجعلها شريك في كل ما يعطيه، لتحصل ولو على الجزء اليسير من الربح وهو هدوء الصدمة واستقبالها بنظرة واقعية لمعادن البشر، أو حتى احتياجاتهم، فالشخص قد يحتاج لعطاء شخص معين لكنه بعد فترة أو زمن معيّن يبحث عن عطاء من نوع آخر ومن أشخاص آخرين وهذا ليس عيبًا إنما العيب أن نتوقع أن هناك أشخاصا لا يمكنهم الاستمرار في الحياة بدوننا.. من المهم أن لا نتوقع ونحن نمنح غيرنا كل شيء أنهم يريدون كل شيء، فقد يكون احتياجاتهم لا يجدونها عند شخص واحد، والمعطاء بلا حدود يتوقع العكس.
وقت العطاء يقابله الامتنان، أما الاستمرار بالعطاء فلن يقابله الاستمرار بالامتنان، العطاء بحدود حل وسط وجرعة ألم أقل وقت حصاد الخيبات.