(مشكلتك يا ابني عاطفية، ومشاكلك النفسية علاجها في الزواج.. ستدعو لي.. توكل على الله وتزوج)!
كل صباح، وبعد أن أغتسل، أتواجه مع نفسي أمام المرآة. وقت الاعتراف اليومي. أتذكر جملة الطبيب النفسي أبوجمال: (ستدعو لي..) ثم تنتابني ضحكات هستيرية: « الله يخرب بيتك يا أبوجمال»!
أغادر المنزل بالكآبة نفسها. لا أشعر سوى بأنفاسي. ولولا إنني أستعير قناع السخرية لكنت الآن رجلا فاقدا لعقله. أقهر الحياة بالضحك ولا أملك سواه.
في طريقي إلى العمل بوسط المدينة أتنبه لعيادة الطبيب أبوجمال. افتقده، رغم أنه سبب شقائي. سبعة عشر عاما مضت منذ آخر مرة زرته. لا أدري ما الذي جعلني أغيّر مسار طريقي وأتوقف عند باب العمارة القديمة. أترجل من سيارتي. أدلف إلى المدخل الرئيسي. تصافحني لافتة كبيرة. انتقال عيادة د. ابوجمال إلى مقرها الجديد في الوسط التجاري للمدينة. أكتب العنوان على عجل، ثم أغادر سريعاً إلى مقر العمل.
أول ما فعلته بعد أن وضعت مفاتيحي على المكتب اتصالي بالعيادة. حجزت موعداً في المساء، ثم انهمكت في الضحك والعمل لا يهم أيهما أبدأ.
عدت للمنزل كما خرجته بالكآبة نفسها. في جلسة العائلة للغداء، يتحول المشهد إلى سيرك مصغر. الزوجة تسرد ملخصا لكل التفاصيل الدقيقة التي حدثت في غيابي، ثم تضيف:
- لا بد أن تكون حازما مع أطفالك. توقف أن تكون مهرجا، هم لا يهابونك بهذه الشخصية!
أعيد لها الصوت ضاحكا، ثم أسأل الأطفال:
- هل تجدوني مهرجاً؟
يواصل الأطفال ضحكهم. يتحرك أصغرهم، ثم يقوم بحركة بهلوانية:
- أنت أحسن بابا في الدنيا.
بعد قيلولة صغيرة أنطلق إلى العيادة. لم يستغرق مني البحث طويلاً فقد كانت العيادة في مبنى تجاري فاخر.
أتجاوز مدخل العيادة الكبير. أتوقف عند مكتب المواعيد. لم أتفاجأ بتسعيرة الكشف. فهذا التغير الكبير يقتات من جيوب أمثالي. تطلب مني الممرضة الجلوس في قاعة الانتظار. دقائق ثقيلة تمر في العيادة المزدحمة بالبشر. لست وحدي إذن من يستعير قناعا، ليخفي اضطرابه عن الآخرين؟ أزمة المدن الكبرى. تعيد تشكيل البشر بطريقة آلية. تستبدل ذاكرتهم بأخرى فاقدة للإحساس، لغتها الأساسية الأرقام فقط.
تنادي الممرضة باسمي الأول فقط، حفاظا على السرية. المجتمع أيضاً يلبس قناعاً مثلي ليخفي اضطراباته. أتبعها، ثم أدلف إلى غرفة واسعة، مرتبة ونظيفة. أرتاح على الكرسي الجلدي. تغادر الممرضة وهي تشير إلى ان الطبيب سيكون هنا خلال دقائق، بعد أن يفرغ من المريض الآخر.
تفرغت حواسي للتأمل والمقارنة بين العيادة القديمة وهذه العيادة الحديثة. نفس التغير الذي حدث بالمدينة. قوالب فاخرة من العمران، تخفي التصدعات الحقيقية في مكنونات البشر.
يدلف د. أبوجمال الغرفة مسرعا. يصافحني على عجل. لم أتبين ملامحه جيداً أول مرة. كان التغيير جذرياً. كان أكثر شباباً من ذي قبل. تصفح ملفي، ثم سألني:
- كيف الأحوال؟
تركت سؤاله الجاف، ورميت بسؤالي:
- ألا تتذكرني؟
- اعذرني يا أخي.. آخر زيارة لك كانت قبل سنوات..
- 17 سنة يا دكتور.. وأنا أرجو أن أدعو لك كما وعدتني.
- لم أفهم؟
- أرجوك اقرأ الملف بعناية.
يشعر بالإحراج أو هكذا تخيلت. تمضي دقائق بطيئة، وهو يقلب في أوراق الملف. يستدرجني للحديث:
- دعنا نبدأ من حيث انتهيت.. كيف حالك الآن؟
- نفس الحال يادكتور، لم يتغير شيء!
يراجع الملف ثم يتوقف عند صفحة معينة. يسأل:
- مكتوب في الملف أن مشكلتك اضطراب عاطفي بسبب قصة حب لم تكتمل.
- صحيح.. لكن علاجك لم يثمر شيئاً!
يعود للملف ليقرأ مرة أخرى. أسأله أن يتوقف عن القراءة. أعرف أن هذا لن يكون مكتوباً في الملف. أضيف وابتسامته الزائفة تستفزني:
- قلت لي إن مشكلتي عاطفية وعلاجها في الزواج.. ما يغيظني أنك كنت متأكداً بأنني سأدعو لك.
استعير القناع مرة أخرى، وأضحك. أبدو أكثر هدوءاً. أشرح له تفاصيل علاجه الذي أثمر عن أربع زواجات فاشلة، والخامسة لازالت تقاوم الفشل بخمسة أطفال.
يبدي تعاطفاً كاذباً. أعرف شخصيته القديمة، أما هذه الجديدة المتلبسة بوجه المدينة العصرية، فهي شخصية مهلهلة، وإن كانت أكثر ثباتاً من شخصيتي!
يحاول أن يجد مخرجاً لورطته العلاجية. يطقطق بأصابعه. يعيد ترتيب كلامه، وهو يجيد ذلك:
- لكنك نجحت في الزواج من المحاولة الخامسة وهذا المهم.
كنت أتذكر النساء اللواتي ارتبطت بهن. جمعيهن طلبن الطلاق. كنت مريضاً لا يعرف كيف يعالج مرضه، وسقط في شرك الأجوبة الجاهزة التي أعطاها له دكتور هو ايضاً نتاج هذه الأجوبة المعلبة!
يعيد الدكتور جملته مرة أخرى ليتأكد أنني سمعتها جيدا. أكشف له حقيقة المحاولة الخامسة:
- زوجتي الحالية هددتني ليلة الدخلة بأنها سوف تصبر علي، ولن نفترق إلا بالموت!
أضحك في وجهه. أكشف خيبتي وفشله. يستر وزر نصيحته بالبحث في الملف عن مخبأ ما، وعندما أكتشف حجم ما اقترفت يداه، أراه يتوسلني:
- لا عليك.. الطب تطور خلال فترة غيابك.. سوف أكتب لك وصفة أدوية مضادة للاكتئاب.. سوف تجدي في حالتك.
أجاري محاولته للهروب، بالهروب أيضا. أرفع الراية البيضاء. أنهض مودعاً:
- لا عليك أنت أيضاً يادكتور.. كنت بحاجة للحديث لا أكثر.
أغادره أكثر ارتياحا لحظة دخولي. أرمي قناع السخرية على مدخل العيادة، ثم أدوس عليه بحذائي.
كنت مهيأ للفرح.
انتصاري على وهم الدكتور، نقطة تحول، تستحق أن أحتفل بها. أنعطف مشياً إلى الشارع التجاري. كأنني أرى المدينة لأول مرة. أتوقف في مقهى صغير. أطلب مشروباً بارداً، ثم استمتع بما فات علي من أحاديث رواد المقهى.