الناس في حياتهم يتحدثون عن أشياء كثيرة, مما شاهدوه؛ ومما سمعوه ومما قرأوه, أولعلها من أساطير الأولين؟! وبعض الحديث قد يؤلم المباني الشاهقة؛ وقد يزلزل نفوسهم التي لم يفارقوها يوما؛ حتى وإن زحف الزمان على وجوههم {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (48 سورة الأنفال). أقف هنا عند مواقع التأثير من تلك الأحاديث في المثل العليا, وهل تظهر فيها معاني النبل والوفاء؛ وهل ترتوي بالقيم الإنسانية.
نعم إن قيمة الخطاب الإنساني تتمحور في التناسب بين الموضوع ومواقع الناس؛ ليصبح المخزون الجمعي من تلك الأحاديث محققا للعزة التي منحها الله للمؤمنين من عباده, (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) سورة المنافقين آية 8، وحيث تغلب سلطة الكلام على كلام السلطة؛ فقد تفضي تلك الأحاديث عن فتح ملفات محتملة؛ ومفاصل مختلفة من شؤون وشجون الواقع؛ حتى وإن كان وراء الأكمة الدلالية للحديث ما وراءها؛ مما اخترمته عوادي الزمان وعقابيله؛ حين أصبحت الحمائم تختطف من كل حدب وصوب.
عفوا لا يدخل في مضمار طرحي ما ينقل ويصب, ويثير فتنا كقطع الليل المظلم؛ فذلك أمر أحاطه الدين بفيض من شرائعه.
ولما أن الناس قد خلصوا من تلك الأحاديث؛ إلى أن حواراتهم؛ أو ما يتأملون من خلالها لا تعدو إلا أن تكون محاولة للوصول إلى حقيقة أو مصير؛ قد يؤمن بعضهم بحتمية حدوثه؛ وقد يرى بعضهم الآخر مواقع النجوم فيه.
المهم أن الأنماط التعبيرية لا بد لها من كيل كما هي النفائس؛ لكونها دلالة على ما في مصادر القول من نقاء أو شوائب؛ ودلالة أيضا على قيمة ما يدور الحديث حوله؛ ومن يوجّه له؛ فهي لا تشبع نهم الذهن فقط؛ إنما تُفضي إلى القناعة والرضا بقيمة الحديث, وسلامة مضامينه (إن من البيان لسحرا) وخلاف ذلك ربما تنزلق قطرات من سيل عرم؛ لتكون ركوبة الرحلة التي يحمل صاحبها صحيفة المتلّمس؛ و يا لها من نهاية مؤلمة, وإذا ما أخذنا بعض حديث القوم في مجالسهم مأخذ الضرورة؛ فإن علينا أن نمعن النظر فيه لإدراك الفائدة منه؛ ونلمح فيه معاني الحياة؛ ونبلغ بالفكرة مداها الجميل؛ وألا تكون حدود التقابل بين المواقف تقاطعا صريحا مع مشاعر الآخرين؛ ومواقعهم؛ حتى لا تمتد حالات التمزق للمراكب والكواكب؛ وتنكشف الأحاديث؛ عن اقتناص رؤى ليس فيها اتساق ولاوفاق؛ وعند ذاك يبدأ الود يذوب ذوبان ودّ ابن هرمة؛؛؛
لمّا رأى أهلها سدوا مطالعها
رام الصدود وكان الود كالمُهَل
نعم كل ذي قول؛ لا بد أن يحرص ألا يكون حديثه قابلا للتأويل؛ أي كما في مصطلح نقاد الأدب (نهائي الإغلاق) فلا يستجيب لإضافة ولا يحتمل توليد توقعات؛ مما يدعم ترسيخ حدود ثابتة للخطاب الإنساني ؛وطريقا نقيا لتداوله ونقله.
وفي المجتمعات الصغيرة؛ ودوائرها الحميمة أو المحمومة خاصة؛ يجدر بنا أن نصنع حصانة للحديث؛ وتناوله وطرحه؛ فمن يملك خبرات إضافية حتما سوف يكتشف سطحية المضامين؛ وهزيل الطرح؛ وسذاجة الظرف والموقف؛ كما أن الأحاديث البيضاء معروضة للبيع؛ واضحة الملامح تصدح بها العصافير؛ ويمتد ظلال أجنحتها إلى العمركله؛ لتعانق المنصفين، ولله در ابن أبي سُلمى عندما وزن الأمر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم.