لم تعد الصراعات والحروب الداخلية الدامية بتمظهراتها الدينية والمذهبية والقبيلية والمناطقية، وتداخلاتها الإقليمية والدولية، حكراً على دول المشرق العربي، على غرار ما نشهده اليوم في العراق وسوريا واليمن ولبنان والتي تنذر بالامتداد والانتقال إلى دول أخرى مجاورة، فدول المغرب العربي دخلت على الخط بقوة كما هو حاصل في ليبيا أو بدرجة أقل كما يحدث في تونس والجزائر ناهيك عن ما يجري في الصومال والسودان، وكأن اللسان العربي الفصيح يقول كلنا في الهمّ والمآسي شرق، وتعددت الأسباب والدمار والقتل والانحدار نحو الهاوية واحد.. فليبيا ومنذ نجاح ثورة 17 فبراير 2011 في إسقاط حكم الدكتاتور الليبي السابق معمر القذافي تعيش في أزمة أو أزمات عميقة ومركبة وممتدة لم تعرف معها الاستقرار والهدوء على الإطلاق. بطبيعة الحال لا يمكن إغفال مسئولية نظام الحكم السابق الذي بسط هيمنته على مقدرات الشعب، وصادر الدولة والمجتمع والسياسة، وانعدمت في ظله كل مظاهر الانفتاح والحرية والتعددية السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك على مدى أكثر من أربعة عقود من الحكم الاستبدادي - الفاسد، ما أفسح المجال لتصدر الهويات (المناطقية والقبلية والعرقية) الفرعية، وفي ظل الفراغ الذي أحدثه السقوط السريع للنظام وتفكك هياكله الإدارية والعسكرية والأمنية، تصدرت جماعات الإسلام السياسي المشهد السياسي باعتبارها الأكثر قدرة على الأصعدة التنظيمية والتعبوية والدعائية والتمويلية، ناهيك عن دعم بعض الأطراف العربية (قطر) والإقليمية (تركيا) لها.. كما يتضح تصاعد دور المجاميع العسكرية والمليشيات المناطقية والقبلية التي أسهم بعضها في الجهد العسكري لإسقاط نظام القذافي، غير أنها رفضت تسليم سلاحها أو الانخراط في صفوف قوات الجيش والأمن الهشة وحديثة التكوين، مع الوقت تحولت تلك المجاميع إلى مراكز قوى مهيمنة شلّت وهمّشت مؤسسات الدولة السياسية والتنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية والأمنية، ونشير هنا إلى تعاقب ثلاثة رؤساء حكومات في مدى عامين فقط، كما جرى احتلال مقر المؤتمر الوطني (البرلمان) العام، وضمن هذا السياق سيطرت تلك المليشيات على موانئ تصدير النفط، ومحاولة تسويقه لحسابها الخاص.. إلى جانب تصاعد أعمال القتل والاغتيال والخطف الذي طال شخصيات مدنية وعسكرية وسفراء ودبلوماسيين عرباً وأجانب، ولم يسلم رئيس وزراء ليبيا الأسبق علي زيدان من الاختطاف، كماستقال خليفة زيدان، عبد الله الثني، من منصبه كرئيس للحكومة في شهر أبريل الماضي بعد تعرض أسرته لهجوم من قبل مسلحين، وذلك قبل أن يعود عن استقالته لاحقاً.. وما زاد الأمر خطورة هو تحول بعض تلك المليشيات إلى واجهات لقوى متطرفة ومجاميع إرهابية بما في ذلك تنظيم القاعدة، وما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).. رداً على تلك التطورات شنّت قوات موالية للواء المتقاعد خليفة حفتر منذ منتصف شهر مايو الماضي هجوماً على ميليشيات إسلامية متشددة في مقدمتها (أنصار الشريعة) التي سيطرت على مدينة بنغازي شرق ليبيا، والتي تُعد ثاني كبريات المدن الليبية، وأطلق حفتر على العملية «الكرامة» وهي وفقاً لما أعلنه اللواء حفتر تهدف (لتطهير ليبيا من الإرهاب والعصابات والخارجين عن القانون والالتزام بالعملية الديمقراطية ووقف الاغتيالات، خصوصاً التي تستهدف الجيش والشرطة).. غير أن تلك العملية لم تتكلل بالنجاح حتى الآن، بل تدهور الوضع بشكل أسوأ، ولا تزال المعارك العنيفة دائرة حتى الآن مخلفة وراءها المئات من القتلى والجرحى.. وقد أدى سقوط العاصمة طرابلس في شهر أغسطس الماضي على يد مليشيات «فجر ليبيا» إلى نقل الحكومة والبرلمان لمقريهما إلى مدينة طبرق الشرقية.
وفي بيان رسمي، نشر على موقعها على فيسبوك، قالت الحكومة، التي يرأسها عبد الله الثني، إنها أعطت أوامرها لقوات الجيش الليبي تحت إمرة رئاسة الأركان العامة بأن تتقدم باتجاه مدينة طرابلس لتحريرها وتحرير منشآت الدولة من هذه المجموعات المسلحة.. على صعيد الواقع بات في ليبيا برلمانان وحكومتان يتنافسان على الشرعية منذ سيطرة الجماعات الإسلامية المسلحة على طرابلس وبنغازي.
من جهة ثانية أعلن تنظيم «مجلس شورى شباب الإسلام» المتطرف الذي فرض سيطرته على مدينة درنة على البحر المتوسط شمال شرق ليبيا وعمل على تحويلها إلى إمارة إسلامية مبايعته للبغدادي، كما أقام أول «محكمة شرعية» في المدينة، باشرت على الفور عمليات القطع والبتر والجلد بحق من تعتبرهم مخالفين للشريعة. لا شك أن ليبيا تعيش أوضاعاً صعبة ومعقدة وخطيرة في ظل الغياب الكلي للدولة، وانهيار مرافقها المدنية والخدمية والعسكرية، وانتشار السلاح وتمدد المليشيات وبخاصة المتطرفة التي باتت تشكّل مصدر تهديد جدي لوجود واستمرار الدولة الليبية، وخطراً على الدول المجاورة والعالم، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لدعوة الأطراف الليبية المتناحرة مؤخراً الدخول في حوار من أجل حل الأزمة التي تعاني منها البلاد قائلاً: «لا يوجد بديل للحوار» كما عبرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن مخاوفها من تحول ليبيا إلى «ملاذ آمن للإرهاب الدولي»، ودعت إلى وقف «فوري» للقتال بين «القوات الحكومية» و«الميليشيات» المسلحة في البلاد.