يكثر الجدل هذه الأيام عن أئمة الدعوة النجدية وعن تقريراتهم وفتاواهم في كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) ويتهمهم البعض بالغلو في التكفير والتطرف، بل وصل الحال إلى ربطهم بالجماعات المتطرفة، كما ذكر أحد الأكاديميين في لقاء تليفزيوني على إحدى القنوات الفضائية بقوله «الحركات التي تسمى بالجهادية الموجودة في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي بدءًا بأفغانستان ثم في الصومال ثم في مالي ثم في الجزائر ثم في تونس... كتبهم ومقرراتهم وتقريراتهم في التكفير وفي استباحة الدماء هي مستندة إلى عبارات صريحة مأخوذة من الدرر السنية» !! ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل شغّب على الشيخ الإمام/ محمد بن عبدالوهاب واتهمه بالغلو في التكفير وأنه يكفر بالعموم ويكفر جميع المجتمعات الإسلامية!! وأن أئمة الدعوة لا يعذرون بالجهل.
والناظر إلى فتاوى وتقريرات أئمة الدعوة في (الدرر السنية) وغيرها يجد أن هذا الكلام غير صحيح ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، إذ بيّن هؤلاء الأئمة منهجهم في مسائل الإيمان وتكفير المعيّن وأنهم على منهج السلف الصالح، ولذا تجد كثيرا ممن خاض في (كتاب الدرر السنية) لا يخرج عن ثلاث حالات : إما جاهل بمسائل الإيمان وأصول وضوابط التكفير، أو جاهل بكتاب الدرر السنية، أو متعدٍ بفساد نية والعياذ بالله وقد تجتمع في بعضهم كل هذه الأمور.
وبداية لابد من التعريف بكتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) فهو كتاب يقع في (ستة عشر مجلدًا) جمع فيه الشيخ/ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم فتاوى ورسائل وتقريرات أئمة الدعوة النجدية بدءًا بالشيخ الإمام/ محمد بن عبدالوهاب حتى عصر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهم الله-، وقد أثنى على هذا الكتاب جمعٌ من أهل العلم منهم الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ - رحمه الله- فقال: «فإني نظرت في هذا المجموع... فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها،... فإنهم رحمهم الله حرروا هذه المسائل، والرسائل تحريرا بالغا مشتملاً على مستنداته، من البرهان والحجة..»، كما أثنى عليه أيضا مفتى عام المملكة في عصره الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري (قاضي المجمعة)، والأهم من هذا كله أن هذا الكتاب طبع طبعته الأولى عام 1356هـ على نفقة إمام المسلمين الملك/ عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه-، ثم طبع طبعته الثانية عام 1385هـ بأمر الملك/ فيصل بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله-.
ثم إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب دعوة سلفية مستمدة من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ولم تكن مذهبا جديدا، أو فرقة من الفرق المنحرفة عن منهج السلف، قال الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه- في خطبة له بمكة المكرمة عام 1357هـ «يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض...، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح... نحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة كلهم محترمون في نظرنا « أهـ [شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز 3-791] وقد بين الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب عقيدته في أكثر من موضع خلال كتبه ورسائله فقال «أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره « [الدرر السنية 1-29]، وقال أيضاً في رسالته إلى علماء البلد الحرام « فنحن - ولله الحمد - متبعون لا مبتدعون على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.... وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم أني على دين الله ورسوله وإني متبع لأهل العلم، غير مخالف لهم» [الدرر السنية ج1 57-58]، وقال أيضًا في رسالته إلى أهل القصيم» والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أمورًا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي فمنها قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة.. وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد.. وجوابي على هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم» [الدرر السنية ج1 33-34]، ويقول أيضًا «وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن أدريس، وأحمد بن حنبل..» [الرسائل الشخصية 96]، ويبين ابنا الشيخ محمد، حسين، وعبدالله -رحمهم الله- عقيدة الشيخ الإمام محمد في العمل والعبادة بقولهما: «عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى- التي يدين الله بها، هي عقيدتنا وديننا الذي ندين الله به، وهو عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو اتباع ما دل عله الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله»، [الدرر السنية 219-1]، وقد شهد علماء مكة على كافة مذاهبهم الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بصحة معتقد ومنهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقالوا «نشهد - ونحن علماء مكة الواضعون خطوطنا وأختامنا في هذا الرقيم- أن هذا الدين الذي قام به الشيخ / محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، ودعا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبدالعزيز من توحيد الله، ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب... إلخ» [الدرر السنية 1-314]، كما شهد بذلك علماء المدينة المنورة والشريف غالب والي الحجاز في ذلك الوقت.
أما قضية التكفير وعدم الإعذار بالجهل، فهي من أشد التهم التي رمي بها أئمة الدعوة، وقد تضمنت الدرر السنية وغيرها من مؤلفاتهم الكثير من كلامهم في دفع هذه الفرية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكره الشيخ الإمام / محمد بن عبدالوهاب فقال: «ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان، وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر» [الدرر السنية 1-102]، وقال أيضًا : «وأما القول: إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء، الذي يصدون به عن هذا الدين ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم» [الدرر السنية 1-100]، وقال في موضع آخر: «وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها» [الدرر السنية 10-128]، وقال أيضًا: «وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ؟! إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم» [الدرر السنية 1-104]، وقال أيضًا في رسالته إلى محمد بن عيد: وأما ما ذكره الأعداء عني، أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله» [الدرر السنية 10/113]، وقال أيضًا «والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا)، [ النساء:94]، أي تثبتوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت» [كشف الشبهات 47]، وسئل الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى، عن حال من صدر منه كفر، من غير قصد منه، بل هو جاهل، هل يعذر، سواء كان قولا، أو فعلا، أو توسلا؟ فأجاب: «إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر[الدرر السنية 10-239] ومن الأمثلة التي تبين إنكار أئمة الدعوة على الغلو في التكفير رسالة الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن إلى عبدالعزيز الخطيب من أهل الإحساء والتي قعّد فيها وأصل منهج أهل السنة والجماعة في التكفير والموالاة، وقد جاء فيها « وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء، قد اعتزلا الجمعة، والجماعة، وكفّرا مَن في تلك البلاد، من المسلمين، وحجـتهم مـن جنس حجتكم، يقولون : أهل الإحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يَكفُر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي ردَّ دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها، قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت ومن جالسه فهو مثله، ورتبوا على هاتين المقدمتين، الكاذبتين، الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة، من الأحكام، حتى تركوا رد السلام فرفع إليَّ أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول فزعموا أولاً: أنهم على عقيدة الشيخ، محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ، من هذا المعتقد، والمذهب، وأنه لا يُكفِّر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله، من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر» [الدرر السنية 1-476]، ولعظم هذه الرسالة وأهميتها في الرد على المغالين في التكفير وبيان منهج أئمة الدعوة في التكفير فقد أفردت وطبعت في كتاب مستقل بعنوان (أصول وضوابط في التكفير)، ومن أمثلة دحض شبه التكفير عن الدعوة النجدية ما ذكره الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود -رحمه الله- في إحدى رسائله بقوله :» ونحن نعلم أنه يأتيكم أعداء لنا يكذبون علينا عندكم... حتى يقولوا إنهم يسبون النبي ويكفرون الناس بالعموم وإنا نقول أن الناس من نحو ستمائة سنة ليسوا على شيء وإنهم كفار وإن من لم يهاجر إلينا فهو كافر وأضعاف أضعاف ذلك من الزور الذي يعلم العاقل أنه من الظلم والعدوان والبهتان» [الدرر السنية 1-263]، ولعلي أختم بكلام الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب إذا يقول: «وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبَّهُ، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك» [الدرر السنية 1-73] ففي عبارة (وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك) دلالة واضحة على أن الشخلا يكفر بالعموم، وكلام هؤلاء الأئمة في عدم الغلو في التكفير والإعذار بالجهل منثور مبثور في الدرر السنية وغيرها من مؤلفاتهم رحمهم الله.
وبعدُ فهذه غيض من فيض من تقريرات أئمة الدعوة النجدية في بيان معتقدهم ومنهجهم في التكفير، فأين دعاوى الأخسرين أعمالاً الذين رموا هؤلاء الأئمة زورًا وبهتانًا وظلمًا وعدوانًا بالغلو في التكفير وربطوا أعمال الجماعات المنحرفة في التكفير واستباحة الدماء بفتاواهم وتقريراتهم، ويتصيدون عبارات قيلت في مناسبات معينة ويؤصلون عليها منهج أئمة الدعوة، فإن أخطاء هذه الجماعات في التكفير واستباحة الدماء لا يتحمله أئمة الدعوة بل تتحمله الجماعات نفسها في إنزال أحكام التكفير في غير موضعها.
وأخيراً فقد كتبت هذه الأسطر دفاعًا عن دعوة غالية، وعلمائها الربانيين، فمن نال من هذه الدعوة وأئمتها متأولًا فالله غفور رحيم، أما من تعمد الإساءة فالله وحده حسيبه، ونحن جميعاً المنتمين لهذه الدعوة خصمه يوم القيامة.