يكرر الكثيرون ومنهم المسؤولون الأمريكيون بمن فيهم أوباما، بأن الغارات الجوية لا تكفي لإسقاط داعش؟ فلماذا كانت كافية وبسرعة ضد مليشيات وجيش الصرب في البوسنة والهرسك، وبعدها في كوسوفو، وبعدهما طالبان والجيش العراقي إبان حكم صدام؟
بلى، الغارات الجوية تكفي، لكنها لن تكفي إذا كان عددها ضئيلاً للغاية، فنحن دائماً نتكلم عنها لكننا لم نتطرق لعددها. خذ مقارنة بسيطة: فحسب أرقام البنتاجون حتى 15 أكتوبر الحالي بلغ عدد الغارات الجوية الأمريكية في العراق منذ 8 أغسطس (بداية الحملة) 294 غارة، وفي سوريا 134 غارة. لنقارن ذلك مع 38 ألف غارة في الأسابيع العشرة الأولى لحرب كوسوفو عام 1999.. أي أكثر من 500 غارة يومياً.. و3515 غارة في العشرين يوماً من الهجوم على مليشيات صرب البوسنة عام 1995 (مجلة القوات الجوية الأمريكية).. وأكثر من 29 ألف غارة خلال العشرين يوماً الأولى لغزو العراق عام 2003 (تقرير للقوات الجوية الأمريكية)، ونحو 18 ألف غارة للأيام الأولى لغزو أفغانستان عام 2001 (نيكولس ديفز).
قد يقال بأن تلك الغارات تلاها وأحياناً ترافق معها قوات برية، لكن ذلك بعد تحقيق الغارات الجوية لأهدافها، فمثلاً بعد العشرين يوماً الأولى من حرب البوسنة حققت القوات الجوية 80% من أهدافها المحددة مقارنة بتحقيق 10% فقط من الأهداف المحددة حتى نهاية الأسبوع الأول من الشهر الحالي، أي بعد 60 يوماً من بداية الغارات في العراق، وفقاً لمسؤولين أمريكيين.
هذا طبيعي إذا كان معدل الغارات الجوية الحالي هو بين 4-5 غارات في اليوم، بينما العقيد الأمريكي المتقاعد، ريك فرانكونا يقول: « يجب رفع عدد الغارات إلى أكثر من مائة باليوم.. فالخطة الأمريكية ضد داعش حتى الآن لا تعكس إلا استراتيجية خفيفة» (سي إن إن).
لماذا عدد الضربات الجوية الأمريكية ضئيل؟ الإجابة مفتوحة.. ربما لأن أمريكا تحضر الرأي العام لكي تعود قواتها البرية إلى العراق لترتب الأوضاع حسب مصالحها.. ربما لأن أمريكا تريد إطالة المدة لعقد صفقات سياسية وعسكرية، وتنشيط التصنيع الحربي الذي سيضخ لاقتصادها مليارات الدولارات وآلاف الوظائف، فأمريكا لن تحل مشاكل الآخرين على حسابها كما يقول محللون محليون في أمريكا.
ثمة احتمال آخر قد يخجل المسؤولون الأمريكان من ذكره، فمنذ الأزمة المالية الأخيرة لم يتعافى الاقتصاد الأمريكي، والحرب الحالية مكلفة، ولا تريد الإدارة الأمريكية زيادتها، فالتكلفة اليومية لهجماتها الجوية ضد داعش تتراوح بين 7 و10 ملايين دولار حسبما ذكرت وزارة الدفاع الأمريكية، أي حوالي 3 مليارات دولار بالسنة.
أما ما يقوله المسؤولون الأمريكان فهو أن استراتيجيتهم هي لتقليص قوة داعش حتى ينهار وليس لسحقه سريعاً، إنها عملية بطيئة قد تأخذ سنوات وتختلف عن الضربات السابقة. فالإستراتيجية الأمريكية السابقة تعتمد على أسلوب «الصدمة والرعب»، كما رأينا في الكمية الضخمة للغارات السابقة. لقد غيرت أمريكا هذه الإستراتيجية لأن سقوط نظام صدام حسين أنتج فوضى عارمة غير قابلة للسيطرة وهددت المصالح الأمريكية، وهذا يحدث الآن في سوريا.. ومن هنا يقول رئيس الأركان الأمريكي ديمبسي إن بلاده «لا تعد لضربات جوية ساحقة بأسلوب الصدمة والرعب.. لأن هذه ليست ببساطة الطريقة التي يقوم عليها داعش. إنما ستكون حملة متكررة ومتواصلة.. وسنكون على استعداد لضرب أهداف داعش في سوريا بما يقلص قدراته».
لكن داعش الآن يتكيف مع هذه الغارات من خلال إخلاء مراكز القيادة وتوزيع القوات وعدم تركيزها بمكان واحد والعثور على طرق أخرى للتدريب والإمدادات (يوهانيس شميت). فعلى الرغم من هذه المواجهة فثمة تدفق للأفراد والأموال إلى داعش الذي لا يزال يتمدد.. فحتى نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر، يحقق»داعش» مكاسب يومية لا تقل عن 3 ملايين دولار أرباحاً صافية من بيع النفط في السوق السوداء (معهد بروكنز). وهنا يشير ميثيو ليفيت الخبير الدولي بشؤون تمويل المنظمات الإرهابية بأن تمويل داعش لا يقارن بتمويل أي منظمة إرهابية أخرى.
من كل ذلك يتأسس الزعم من أن الضربات الجوية لا تكفي، بل إن الخارجية الأمريكية تقول إن المواجهة مع داعش لها جبهات عديدة ولا تقتصر على العمل العسكري، وإن على الدول المشاركة بالتحالف الدولي أن تحدد الجبهة التي تنخرط فيها وحجمها، بما فيها تضافر الجهود لقمع أيديولوجية التعصب.. إنها معركة النفس الطويل، لذا يدعو البنتاجون إلى التحلي بـ»صبر استراتيجي».
لكن هذا الصبر بدأ ينفذ (ربما هذا ما تريده أمريكا).. إذ ظهر من يدعو لعودة القوات البرية الأمريكية، فقد وصف الجنرال أوديرنو (الذي تولى قيادة القوات الأمريكية بالعراق من عام 2008 إلى 2010) أن ما حدث بالعراق محبط للغاية، مشيرًا إلى أن «الوضع ربما كان سيصبح أفضل لو بقيت القوات الأمريكية هناك، لأننا كنا سنصبح قادرين على متابعة ما يحدث عن كثب». بل حتى بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي السابق ورئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، صرَّح بضرورة ألا يستبعد رؤساء أمريكا أي خيار عسكري، منتقدا استبعاد خيار القوات البرية.
بعد هذا التصريح الخطير سعى الرئيس الأمريكي أوباما لطمأنة الأمريكيين متعهداً بألا تخوض بلاده حرباً برية أخرى في العراق. فهل هذا جس نبض وتحضير للرأي العام الأمريكي الذي قد ينفد صبره ويميل لخيار الحرب البرية؟ ربما، فقد أظهر استطلاع (شبكة «إن بي سي» الأمريكية) أن أعداداً متزايدة من الأمريكيين تعتقد أنه يجب توسيع العملية العسكرية لضرب داعش ودخول قوات برية، فنسبة المؤيدين لإرسال قوات برية أمريكية زادت من 34% في الشهر الماضي إلى 41% في الشهر الحالي، بينما نقصت نسبة من يؤيد الاقتصار على الضربات الجوية من 40% إلى 35%.
وقال في الاستطلاع أكثر من نصف الأمريكيين (55 %) إنهم غير راضين عن أسلوب إدارة الرئيس أوباما للحملة ضد داعش بينما أيد أسلوبه 37%.
التجارب السابقة أظهرت أن الغارات الجوية الأمريكية تكفي لإسقاط من تعلن أمريكا رسمياً الحرب عليه، باستثناء ما حدث في فيتنام، إنما الآن يقول الأمريكان شيئاً مختلفاً ويستنتج آخرون أشياء نقيضة، وبينهما احتمالات شتى تزيد الوضع غموضاً ستُجليه الأشهر أو السنوات القادمة.