ولنا في الأصوات حياة
لا أحتاج أن أكون عالماً في الوراثة حتى أبرهن صحة نظريتي في أن شفرة الصوت غير قابلة للتوارث وأن جينها معطوب، وأعطبنا حين فقد، وأنه بإمكاننا مكاثرة الصوت داخل أذينات القلب, أسألت نفسك لِمَ يمتلك القلب أذينات بغض النظر عن سبب تسمية الحجيرات العلوية بأذين؟..
لأنها تسمع وتخزن الأصوات وتلقح بها الدم ثم تخرجه لأعضاء الجسد فينمو صوت من نحب في كل خلية، غير قابل للتبخر من مسام الجلد، هو أثقل من أن يُحمل مع قطرات الماء، وأبقى في داخلنا وأدعم لعاطفتنا، إن الصوت موجة ترددية،ترد كل صوت سواها، ونتردد نحن في قبول أصوات عداها, المسألة ليست فيزيائية علمية بحتة هي مجرد شعور يهتز بداخلنا فنعي العلم الذي نستصعبه منذ الصغر.
نعي أيضاً الخرس الذي يصيب المفجوعين، والمحزونين، ونعي كمية المشاعر التي تتيبس حول الحنجرة وتصلب الأحبال الصوتية فلا تهتز على عكس السعيد فهو يصدح بالغناء والفرح يختال بصوته, إذن الصوت ليس فقط وسيلة للتخاطب والمحاورة بل وسيلة تعبيرية ونطاق إحساس يتفاوت بحسب شدة الشعور وعظمه.
مادمت ذا لسان وحنجرة وفؤاد تحدث، عبّر، تلاعب بنبرة صوتك إنها إحدى الفنون، الصوت معجزة إلهية قذفها في حناجرنا، وسيلة إقناع، وحبل مامد في الحناجر فقط بل يمتد لما بين القلوب فيعقدها، تلك الثورة العالمية التي قامت حين اخترع (جراهام بيل) الهاتف، ومدّ أسلاك شائكة بين البيوت إلى المدن وقامت حضارة هاتفية كلها فقط من أجل موجة صوتية صادرة من الفم إلى أذن فتقيم ضجة عاطفية فتحيي قلباً وتنبت حباً وتقيم سكينة في الجسد ربما أفقدها الشوق والبعد والحرمان ماء حياتها ووجدها وكانت عرضة لليباس والجدب في أيام عجاف.
تعدت التقنية الآن إلى أن صارت الرسائل الالكترونية تحمل مكبر صوت، صرنا نتحادث في ثوان صوتياً، وصار الالتحام العاطفي أكبر مع ضجة الهواتف العاطفية ونشوء برامج الصور والأصوات.
كان عليهم منذ البداية أن يعلمونا بأن كل موجة صوتية لها تردد معين يختلف بحسب عاطفة الشخص فتغدو الأصوات التي نبغضها شبه معدومة لا مسموعة في حين أن همس المحبوب ذو تردد عال يخطف القلب ويعمل على إدامته كمضخة تضخ الحياة، (طبّ صوتي )، ولا أظن أننا بحاجة لوصفة طبيب يذكرنا بأن أصواتهم بمثابة شفاء من سقم الدنيا وأنها كماء بارد يسكب فوق أرواحنا فنغتسل، وأنها إكسير الشباب قلوبنا تقفز فرحة وأن الضحكات التي تدوي حين الكلام لا تطفئ لهفة الاستماع لما يليه.
أرسل رسالة صوتية لو قل عدد الكلمات، جرب أن تستطب بمكالمة هاتفية، لا تزاول الخرس, الحب ليس له قلب فحسب بل آذان.
حرّك لسانك ذاكراً لله، ولا تقل إلا خيراً، واغضض من صوتك، وإن همست فاهمس حباً, ومن يشري صوتك فلا تقم على الكلام معه احتجازاً، أو تمنحه منه نشازاً, فالبعض يرى الحديث معك كنزاً وأنه قد لاقى مفازا.
ولنا في الأصوات حياة.
