أحياناً أتساءل هل التكفير ظاهرة إسلامية أم أنها دخيلة على الدين الحنيف، وأنها استحدثت في عصور ماضية لاستخدامها في الوصول إلى المآرب السياسية، وقد كان أول من أثارها الخوارج الأوائل، وذلك عندما كفروا جماعة من الصحابة، وقد قوبل تكفير المسلم لأخيه المسلم بالاستنكار من قبل المسلمين الأوائل، ومن رحم تلك الفتنة خرجت الطوائف والملل، واختلف المسلمون في كيفية مواجهة قضاياهم السياسة، وقد كان أركان الدين الحنيف وصفات الله وقدره وسائل لإخراج المخالفين والمعارضين السياسيين من الدين وقتالهم سواء من قبل السلطة أو من قبل المعارضين.
عبر التاريخ، أصبح التكفير أشهر سلاح سياسي فتاك، و تم استخدامه كثيراً في مراحل التاريخ المختلفة، وزادت وتيرته في القرون الماضية إلى درجة أن التكفير قد يكون جماعياً أو شاملاً، وقد يكون شعاراً لشن الحروب وقتل المخالفين والمعارضين والأقليات، وعادة تستخدم الرموز الدينية والسياسية ظاهرة التكفير في تهيئة الإنسان البسيط لقتل أخيه الإنسان بدون أن يشعر بتأنيب ضمير أو أنه ارتكب كبيرة حرّمها الله عز وجل في كتابه.
لم يكفر الرسول عليه الصلاة والسلام أحداً من المسلمين، وقد نزل عليه الوحي بأسماء المنافقين، وسكت عن تكفيرهم، بل استغفر لأحدهم عندما مات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزما أن أحكام الكفر والإيمان والجنة والنار لله وحده، لقوله عز وجل (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون )، كذلك لم يستخدم صحابته سلاح التفكير في خلافاتهم السياسية، وهو ما يثير كثيراً من الأسئلة عن ظاهرة التكفير المعاصره، وهل هي من الإسلام أم دخيلة عليه؟، وهل يصح للإنسان أن يكفر أخيه المسلم، وخصوصاً أن ذلك يعني إهدار دمه وقتله، مع أن الصحيح والثابت في السيرة أن التكفير حق إلهي لا يعلم أحكامه إلا الله عز وجل.
كانت ظاهرة التكفير مدمرة في القرون الأولى لوحدة العرب المسلمين، ولحضارتهم، فقد تم استخدامها لقتل كثير من المبدعين والفلاسفة والعلماء تحت ذريعة التفكير الحر والخروج من الدين، يقول السيوطي إن الهادي الخليفة العباسي قد قتل خمسة آلاف فيلسوف في بغداد وحدها بدعوى التكفير ومن أجل اقتلاع ما سمي بالعلوم العقلية، وقد تعرضت الترجمة لحملة تحريم واسعة، وكانت مقدمة لإجهاض بعض أوجه الحضارة الناشئة ثم هجرتها إلى الأندلس ومن ثم إلى الغرب.
تعد الوثيقة القادرية أو الاعتقاد القادري أخطر وثيقة في حضارة العرب، و هي وثيقة أصدرها الخليفة العباسي القادر بالله سنة 408هـ، و حددتْ المعتقدات التي يجب على المسلمين اعتقادها، ومن قال بغيرها فقد كفر ، وقد منعت هذه الوثيقة الاجتهاد ؛ فكانت السبب في تأخر المسلمين ؛ وهو تأخر لا زالت تأثيراته إلى اليوم، والخليفة العباسي القادر بالله مُصَدّر الوثيقة، وقد طال تأثيرها الطوائف الأخرى، وأصبحت لكل طائفة وثيقة تكون بمثابة الشفرة التي تؤطر حدود الإيمان والكفر حسب مصالحها، ثم تطلقها لإسكات الفكر والعلم المعارض لتسلطها.
أصبحت كلمة كافر على كل لسان في العقود الأخيرة، وأصبح من السهل إطلاقها على الآخر لاستحلال دمه، وقتله، وقد كان تذيل الأحكام والفتاوى بالجملة الشهيرة، «من قال غير ذلك فقد كفر»، أهم مصدر لإطلاق فتنة التكفير، ولو راجعنا كثيرا من الفتاوى خلال القرون الماضية لوجدناها ثرية بمصطلح التكفير، وقد كان لذلك الإرث الدور الكبير في إذكائها مرة أخرى، وقد أستطيع القول إنها أصبحت ثقافة شعبية، وقد وصلت إلى الرياضة، ودخلت فيها الوطنية .
من أهم إشكاليات الحل لظاهرة التكفير المعاصرة أن تاريخنا المعاصر مشبع بها لدرجة عالية، وإلى درجة الترويج لأحكامها، ولو كانت نتيجة ذلك انتشار الجريمة السياسية، وقد تكون تلك الظاهرة أهم فصل سياسي في تاريخنا المعاصر، وهو ما يجعل من استئصالها ضرباً من المستحيل، وهو ما يعني أن الحل لن يكون إسلامياً أو من خلال رجال الدين، ولو كان ذلك من خلال المناشدة باتباع سنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وذلك لتلوث الدين النقي بمصالح الناس الدنيوية عبر القرون، ولكن قد نصل إلى حل شاف عبر سنّ قانون يُجرم الذين يكفرون معارضيهم أو مخالفيهم دون وجه حق، والله المستعان.