جُلنا ندرك أن «المسؤولية الاجتماعية» رسالة إنسانية فائقة الأهمية، وهي بُعد استراتيجي تربوي، تركن إليه الأسر والمجتمعات والأنظمة، سعياً - من خلاله - إلى تحقيق أهداف النظام الاجتماعي الفاعل والمؤثر. وغالباً ما تتميز طروحات المنظرين والباحثين حينما يؤكدون أن وعي المجتمع وتطوره هو حصيلة جهد تنظيمي وسلوك حضاري ومنطلق إنساني، يسهم في تغليب العقل وبناء الخطاب الواعي، والتفاعل مع إنجازات العقل المتألق، والفكر النير، والجهد الفردي والجماعي الخلاق.
وغالباً ما يرتبط مصير المجتمع أو الأمة بمصير القضايا الكبرى، أو لنقل عنها الرسالة المصيرية أو الوجودية التي يتبناها أفراد المجتمع، ويقدم ذاته من خلالها كعنصر فاعل ومؤثر في العقل والوجدان، ولاسيما حينما تكون متعلقة بوعيه وصحته وتعليمه وغذائه، ومحققة للأهداف المرجوة على نحو نضج المجتمع وتفاعله إنسانياً وحضارياً مع ما حوله من قضايا وتحديات.
إلا أن ما يلاحَظ أحياناً على مثل هذه الخطابات والقضايا أنها تسعى إلى إقحام المجتمع في كل قضية من هذه القضايا، حتى باتت المسؤولية الاجتماعية عبئاً على الكثير من الحوارات والنقاشات والتنظيمات، وربما كثرت استخداماتها وتداولها، وحشرت في زوايا ضيقة على نحو ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينما تتكرر مقولة:ـ «تعزيز قيم المجتمع المدني».
فالنخب المترفة، ومن ورائها بعض الأنظمة والكيانات، قد لا تكل أو تمل من وضع هذه العبارة أو المقولة والدوران حولها، بل إن هناك من يتظاهر بأنه وصي على المجتمع، وهو لا يمتلك القرار، أو حتى حق الحديث في قضاياه حتى وإن كانت بسيطة؛ لأن قيم المجتمع المدني هي مسؤولية المشرعين وما لديهم من ضوابط وتنظيم، وجهات معنية بالنظام الاجتماعي الذي ينبغي له أن لا يجعل المجتمع عرضة للمزايدات والاتكاء على قيمه، واستنساخها على نحو شكلي لا فائدة منه.
وكأننا في هذه الصياغة لمفهوم (المجتمع المدني) نخلق ـ خطأً ـ إطاراً جديداً؛ يتطلب منا أن نقسو فيه على من يراد لهم أن يكونوا خارج هذا التوصيف أي (غير المدني)!! وحينما نتأمل بعض المشاريع أو الأنشطة الاجتماعية نجدها قد اتجهت في مثل هذه الفرضية إلى تبني قضايا المجتمع والدفاع عنها، إلا أنها تحتاج ـ صدقاً ـ إلى بناء جسور من الموضوعية والوعي من أجل مجتمع متجانس، لا مجتمع مدني وآخر غير مدني.. وهذا لب الحديث وجوهره.
بعض أمسيات المراكز الثقافة، وندوات الفكر، والحوارات الوطنية لا تخرج عن هذا التصور الإشكالي، وكأنها معنية بالدرجة الأولى بمثل هذا التصنيف للمجتمع الذي ينبني على فرضية أنه غير مدني، وتريد أن تخرجه بطريقة أو بأخرى من كونه مجتمعاً غير مدني إلى مجتمع مدني، وهذا أخطر ما في هذه الرؤية الضيقة الأفق التي قد تصنف المجتمع على هذا النحو.
ثم إن الإعلام بشقيه (السائد والبديل) ليس معنياً بأن يكون مطية للوصول إلى أهداف هذه التصنيفات؛ إذ تكثر في الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي هذه العبارات دون معرفة أو تمييز لها، أو لِكُنْه استخدامها.
ولا شك أن قضايا المجتمع كإطار عام يشترك في تشخيصها وتصنيفها ومعالجتها الجميع، أفراداً ومسؤولين ومتخصصين، إلا أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق منظومات العمل الإداري، والقرار الواعي، والمنظمات المؤهلة، والمجتمع التفاعلي، والأمة، ووسائل الإعلام بمختلف تخصصاته.