تعيش أبها منذ سنوات قليلة حركة متلاحقة من العمل المتواصل، ومحاولة إيجاد نوافذ للفعل الهندسي المتجه نحو تحوير الواقع الموجود قدر الاستطاعة، وتوجيهه نحو بدائل فاعلة في تطوير البنية القائمة، وهي أعمال وجهود أثق من خلال رؤية منتجها أنها تسير ضمن رؤى ومقترحات علمية،
هدفها خدمة المدينة البهية، ومواطنها، وقاصدها السياحي، وهي أعمال يقف خلفها رجال راغبون في الانطلاق من الواقع بهيئته القارة إلى الممكن الأفضل والمأمول، بدءا من أميرها سمو الأمير فيصل بن خالد، ومرورا بمهندسي الأمانة والجهات ذات العلاقة في المدينة، والذين تشهد لهم هذه الحركية المتواصلة ببذل جهود، وتحقيق نتائج يلمسها كل منصف يرى ويتابع ويقارن. وهو حراك إيجابي لأنه يمثل استثمارا واعيا لهذه المرحلة التاريخية المتسمة بسيولة مالية طيبة، وجهتها الدولة وجهة مناسبة للنماء والإنجاز...
إن أبها التي أعرفها منذ وعيت الحياة إلى اليوم تسير بحركة متوهجة من العمل، ألحظها في الصباح وفي المساء، هذه الأبها النشطة المتحركة باستمرار يواجه نشاطها الفاعل ميدانيا فعلا معاكسا من التحبيط والتقليل عبر أقلام قلة قليلة من أبنائها، وهي فئة لا تفتأ تقلل وتهاجم وتصادر هذه الحركية الجميلة... إن النقد الموضوعي للعمل أيا كان جزء من تكاملية الجهد الإنساني، ولا يفقد موضوعيته إلا حين تكون غايته التقليل والمصادرة فحسب ! وليس الاختلاف النظري غريبا إلا حين يكشف الواقع عكسه تماما ! إن حالة من العجب تتملكك وأنت ترى وتعاين منجزات الصباح الجميل تتحقق وتتواصل، ثم يأتي المساء لتقرأ تهميشا لها، واتهامات متكررة من أقلام محددة ! إن الغريب والعجيب أن هذه الحركة الكتابية المعاكسة والمضادة، لم تزل تنظر لكل هذه الأفعال الإيجابية نظرة مصادرة إقصائية عنيفة، فهي لا تحاور المنجز، وتقترح وتناقش، بل تصادروتتهم، وتنزلق إلى مستوى من الهجوم لا مبرر له عبر بعض»المقالات والتغريدات التويترية والمنشورات «الفيسبوكية»! وهي حالة أثارت لي شخصيا حالة من الغرابة بين ما أراه يتحقق باستمرار من منجزات ومشروعات في الطرق وفي الحدائق والساحات، وبين فعل كتابي يحاول أن يشوه أو يقلل من هذه المنجزات ! وكأن هذا الخطاب النظري خلف المكاتب والشاشات يقف أمام المنجز العملي محاولا إيقافه عن مواصلة منجزه وتشويهه ! وتتنوع هذه الحالة الكتابية في هجومها لتصل أحيانا إلى اتهام العاملين المنجزين مثلا : «بالتصحر» وانعدام الذائقة الجمالية ومحاربة التراث والأصالة ! ومع أني بالطبع أعي أن مشروعات وأفكارا سياحية تتحول إلى أرض الواقع بكل هذا الحضور والتسارع قابلة قطعا لتعدد الآراء واختلافها وعدم اتفاقها، وهو ما يظهر في بعض المقالات الموضوعية المنصفة ! إلا أني أعي أيضا وفي الوقت ذاته أن مثل هذه المشروعات قد مرت بمراحل عديدة من الدراسة العلمية، وعرض البدائل الممكنة، والاطلاع على جدواها على المواطن والمنطقة، وهو ما أراه تحقق ويتحقق بشكل جميل؛ مما يعني أن الإشارة له، والإشادة به أمر تفرضه الحقيقة التي أراها ماثلة أمامي، ويفرضه مبدأ العدل، وأنا الذي تغمره السعادة وهو يلحظ مثلا - ومن خلال تجربته الشخصية التي قد تتعدد نماذجها - أنه أصبح بعد تنفيذ بعض هذه المشروعات والتعديلات في المسارات يقطع الطريق إلى جامعته في فترة قصيرة جدا مقارنة بالوضع الساق، وأصبح يتجول فيرى مساحات جديدة وواسعة من المسطحات الخضراء التي تحوطها أرصفة للمشي، ولا تبعد عنها ملاعب متعددة للشباب، ومساحات للأطفال، ينظر جماليات تتجدد، ورؤى تتحقق، ويغدو السؤال : لم يصادر ما تحقق بكل هذه المجانية الغريبة ! نعم إن الحركة الجديدة، والتنظيم المستحدث قد فرض على السائق مثلا أن يحدد طريقه نحو مقصده قبل الانطلاق، وقد يحتاج إلى المرور عبر المسارات غير المباشرة ليصل إلى هدفه بعد توحيد اتجاهات بعض الطرق، وهو أمر سيعتاده المواطن، وهو أيضا ضريبة بسيطة جدا مقابل انسيابية الحركة التي يلحظها المتأمل ...
إن الناظر لهذه التعديلات والإضافات المهمة سيصاب بالحيرة إزاء هذه الحملة التي لم أجد لتكتلها وحدتها مبررا مقنعا، ولم أجد في طرحها سوى عواطف تبكي مجموعة من الأشجار هنا أو هناك، أو تأسى على إزالة «قصبة» بنيت قبل سنوات قليلة جدا مقارنة بعمر التراث العالمي، وكأن هذه «القصبة» معلم تراثي حضاري اقتصادي هائل، يتوافد عليه السياح؛ لتأمله ولأخذ الصور حوله! أزيلت هذه القصبة في إحدى دورات أبها من أجل سلاسة وسلامة الحركة المرورية، وأشهد أنه كان قرارا صائبا لمست بعده -وأنا من يسير يوميا معه - سلاسة وانسيابية في الحركة المرورية ... ثم تكون الهجمة الأخرى من أجل مجموعة من الأشجار المزروعة تم إزالتها من جزر أرصفة بعض الطرق المزدوجة؛ رغبة في توسعة وفتح منافذ جديدة، وفك اختناقات معينة، وهي أشجار قليلة أشهد أني لم أر في يوم من الأيام من يستظل بظلها أبدا؛ لتنهال اتهامات الأقلام بأن هناك نية «لتصحير» المدينة ! ثم تزال بعض الأشجار في منتزه وطني ؛ ليصل المواطن والمصطاف بسيارته إلى مناطق جديدة، مع بقاء المتنزه في حالته الخضراء الرائعة، بإضافة مساحات وجلسات ومنافذ جديدة، لتبدأ هذه الأقلام القليلة حملتها المولولة من تصحرقادم! وأعود لأطالع وأقارن هول المكتوب بحقيقة الواقع ! فلا أرى إلا جمالا يزيد، ومساحات تستثمر وتتوسع وخدمات تضاف وتتنوع ! وعدت أتساءل أمام هذا الحرص البيئي الغريب المتكلف : لمَ لا يتهم هؤلاء الكتاب كل من ابتنى بيتا أو أقام مشروعا في أبها بالتصحر ؟ وربما لو رجعنا للتاريخ قليلا لوجد بعضنا -وأولهم الناقمون من هؤلاء الكتاب- بيته قد أقيم على أنقاض شجرتين من «العرر» وخمس من شجر «العثرب» أفلا يكون من العدل أن نبدأ باتهام أنفسنا بهذا التصحر أولا إن كان هذا يعد تصحرا ! إنني أرى أبها الخضراء باقية كما هي عبر شوارعها، ومتنزهاتها، وروحها التي تقبل الجديد، وتتهيأ بطبيعة البلدان الخضراء لاستقبال كل منجز مفيد !
إن من الظلم لأبها أن نجردها من جمالية حركتها، ونسخر من أفكارها الجديدة ! أقول هذا وأنا أستذكر بغرابة كبيرة تلك الحملة التي واكبت رحلة: «طائرة أبها « وهي فكرة سياحية جديدة من حقها أن ترى النور مثل كل الأفكار البديعة في المدن السياحية، وقد يكون النجاح حليفها أو الفشل ! لكن من حق الفكرة أن ترى النور، ومن حقها أيضا أن تقدم الأقلام الرافضة لها حججا علمية وموضوعية للرفض، بعيدا عن منظومة التقليل والسخرية التي يجيدها كل أحد ! كنت أقرأ ما يكتبه الرافضون للفكرة فلا أجد إلا انطباعات ذاتية، وعواطف خاصة! وهو ما يشير إلى أن بعضنا يرى التحديث بعين، ويخافه بالأخرى ! يقر به نظريا ويسخر منه عمليا! يؤمن به في دائرته النظرية الخيالية، ويقتله حينما ينفذه الآخرون على أرض الواقع! أنظر الآن إلى الطائرة الجاثمة بكل جمال على مرتفع عال في المدينة ؛ فتأخذني روعة الفكرة وحداثتها، وأنتظر يوما تستثمر فيه سياحيا لنرى الفكرة على حقيقتها على أرض الواقع، ومن ثم يمكن أن نحكم بنجاح أو عدم نجاح الفكرة !
«أبها» مدينة يظلمها وللأسف قلة من بعض أهلها الكتاب، فهي تارة مدينة تتجه نحو «التصحر»، وهي أخرى مدينة «موحشة» تسكنها ذئاب بشرية، تجعل أحدهم لا يتورع أن يقول: إنه لا يمكن أن يسمح لبناته بقيادة السيارة فيها، وقد يسمح لهم بذلك في مدينة «الرياض أوجدة» ! مع أنها المدينة ذاتها التي تعلمنا فيها ولا زلنا جماليات الجوار، وحميمية العلاقات، وصدق المشاعر . وهي أبها التي «تصدم» الكاتب ذاته حين تطالب بحقها القانوني في اجتماع ثقافي يؤكد نبلها وصفاءها ! وهي أبها المتصحرة أدبيا عند آخر، فالأدب خارج حزامها !
تُظلم أبها من قلة قليلة من أبنائها؛ فتنظر نحو قسوتهم، وترمي عليهم من سلتها العامرة صنوفا من عطرها واخضرارها وضبابها لعلهم يستطيعون السير خلفها، وهي المرتحلة كل حين نحو فضاءات الجمال والبهاء ! إنها أبها التي تعرف - دون غرور أو استعلاء - أنها أكبر وأجمل وأبهى وأبقى ! وهي أبها التي تتعالى عن أن يقيدها عن تحقيق أحلامها عمود صحفي أو منشور تقني ! أبها التي تنطلق بأهلها نحو المتن الذي يليق بها وبهم ! أبها التي تسكب عطرها، وتمنح دلالها لكل الماهرين المهرة في اصطياد الجمال فحسب، أبها التي تأتلف مع المخلصين الكثر من أبنائها وبناتها؛ لمواصلة الدهشة والإبداع وإن غضبت قلة من الكاتبين والمغردين ...