حادثة الأحساء التي آلمت وأوجعت وأثارت الرأي العام الداخلي والخارجي وسجلت في قاموس الإرهابيين سابقة لم يكن أحد يتمنى أن تكون، وصفهم سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بأنها: (اعتداء غاشم، وظلم عظيم صادر من قلوب مريضة تريد إشعال الفتنة بين الناس بعضهم بعضاً ويأبى الله ذلك، هذه فتنة وشر فعلها من يريد بنا شراً وسوءاً ويريد أن يفتح باب النزاع الطائفي ليقتل بعضنا بعضاً، ويهلك بعضنا بعضاً). هذه الحادثة باختصار انعكاس لإشكالية معقدة تتربع في ذهنية المبتورين الذين تقصر عقولهم عن إمكانية الجمع بين «الهوية» و»الوطنية»، فهم يعتقدون جراء فهمهم القاصر وجوب التماثل والتطابق بين متغير الهوية المؤسس في المملكة العربية السعودية على العقيدة السلفية الوسطية الصحيحة، ومتطلب الوطنية ذي الدائرة المكانية ذات الحدود الجغرافية المعروفة، وغاب أو بالأصح غيب عن تفكيرهم أن الانتماء الجغرافي -المحدد الأساس للمواطنة الصالحة- يرتكز على التعددية الطائفية كما هو الحال في التعددية القبلية والمناطقية والمناخية والتضاريسية والسنية والثقافية والعلمية والجنس وقل ما شئت من سيل المتغيرات التي من المفترض أن تتلاشى كلية وتذهب حين يكون الوطن.
إن ما حدث في قرية الدالوة وما تلاه من أحداث تتعارض؛ هذه السلسلة الدموية مع أبجديات الفهم الصحيح لحقيقة هذا الدين الذي تشهد صفحات تاريخه أن المثالية الحقة في الانفتاح والاحتواء والتعايش السلمي والتسامح المقدس بين أتباع الديانات الأخرى فضلاً عن الفرق والطوائف المصنفة في جميع كتب علماء الأمة أنها من فرق الإسلام، بل إن التعايش بين الشيعة والسنة في محافظة الأحساء الحبيبة يعد نموذجاً رائعاً في نظري لحسن الجوار والتعاون الفعال من أجل هذا الجزء من الوطن وتقدمه وتطوره، ليس هذا الجزم مني مبنياً على سماع فقط بل من خلال مشاهدات متكررة وتأكيد قاطع من زملاء أعزاء يعيشون في هذا الجزء من الوطن الغالي منذ سنوات وما زالوا.
إننا هنا لسنا بمعزل عن العالم ولا يمكن أن نتجاهل صفحات التاريخ، كما أننا لا نحتاج إلى أن نخترع العجلة في كيفية العيش بسلام داخل حدود بلادنا الحبيبة ولكن أشد ما نحتاجه في هذا الوقت العصيب أن نحافظ على مكتسباتنا الوطنية ونستفيد من تجارب الآخرين ونعيد قراءة التاريخ ونعلم أبناءنا على التسامح والمحبة والسلام من خلال الحوار ولنحذر من اختراق الصف وشق الاجتماع وضرب الوحدة الوطنية التي ننعم بها وإفساد الأمن بدلالته العامة والشاملة الذي نتفيّأ ظلاله بالغدو والآصال، فنحن كما ذكر صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز -رحمه الله- مستهدفون عقيدة وقادة وأرضاً وشعباً، وقد يكون خلف هذا الحادث قوى خفية جعلت من أبناء هذا الوطن وقوداً للمعركة وفتيلاً لنار ملتهبة لو اشتعلت لا سمح الله لأكلت الأخضر واليابس، وما أروع ما ساقه فضيلة معالي الشيخ الأستاذ الدكتور صالح بن حميد في خطبة الجمعة قبل الماضية 7 / 1 في الحرم المكي حين أكد -محذراً ومنذراً ومنبهاً ومخوفاً وقبل هذا وذاك ناصحاً ومشفقاً- كثيراً من المفاهيم والقيم الوطنية التي نحن أشد ما نكون في حاجة لمدارستها والتأكيد عليها وبيان أبعادها في جميع ملتقياتنا ومجالسنا ومجتمعاتنا، والتي سوف أعرض لها في مقال قادم بإذن الله، رحم الله الأموات ورزق أهلهم وذويهم الصبر والسلوان وشفى مصابيهم وحفظ بلادنا ووقانا شر من به شر وقطع دابر الإرهاب والغلو والتطرف.. دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.