قبل أحد عشر عاماً من الآن أجرت المفوضية الأوروبية استطلاعاً للرأي في دول الاتحاد الخمس عشرة في حينه، وقد كان الاستطلاع جريئاً بكل المقاييس، عندما تضمن سؤالاً جريئاً عن البلد الذي يهدد السلام العالمي، وعرض فيه على المستجوبين قائمة تضم أربعة عشر بلداً، من بينها دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) وقد مثل بحد ذاته تعريضاً بسمعة (إسرائيل) ومكانتها،
وقد جاءت نتائج الاستجواب لتشكل صدمة سياسية للكيان الصهيوني ولقادته ومخيبة لآمال الصهاينة من يهود وغيرهم، حيث نشرت المفوضية الأوروبية يوم 02-11-2003م في بروكسل نتائج الاستطلاع وتصدر فيها الكيان الصهيوني المرتبة الأولى بين الدول التي أشار إليها الاستطلاع، وذلك يعني أن الرأي العام الأوروبي كان قد بدأ يتحرر من سطوة (سوط الصهيونية) اليهودية، ومن سوط اللاسامية، الذي يجلد به كل من يحاول أن ينتقد إسرائيل وأفعالها، وقد كانت نتيجة الاستطلاع، واضحة حيث اعتبرت غالبية الرأي العام في بلدان الاتحاد الأوروبي أن إسرائيل تمثل خطراً على السلام العالمي بنسبة 59% على مستوى دول الاتحاد ككل، وترتفع هذه النسبة إلى 74% في هولندا و69% في النمسا و65% في ألمانيا، إن المتابع لتحولات الرأي العام الأوروبي إزاء الصراع العربي الإسرائيلي والموقف من حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، يرى أن الرأي العام الأوروبي الذي سيطرت عليه أجهزة الإعلام والدعاية الصهيونية لنصف قرن مضى، قد بدأ يصحو على وقع وحشية الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يعد أسيراً لعقد الذنب عن الجرائم التي اقترفتها النازية، وأن إدانة الجرائم النازية، لا يجوز أن تسكته عن فضح وإدانة الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، ولابد من محاسبتها وردعها، ولقد شهدت مختلف العواصم الأوروبية خلال السنوات العشر السابقة التظاهرات الواسعة، المؤيدة للشعب الفلسطيني ولكفاحه من أجل الحرية والاستقلال، والمنددة بالإجراءات الوحشية والقمعية التي يواجه بها جيش الاحتلال المدنيين الفلسطينيين، ويلغي من خلالها أبسط شروط الحياة الكريمة لأكثر من أربعة ملايين فلسطيني يرزحون تحت الاحتلال، ولذا لم يعد غريباً أن يدين أكبر اتحاد عمال بريطاني (يونايتد) إسرائيل وجرائمها في الأراضي المحتلة وأن يعلن انضمامه إلى حملة المقاطعة العالمية التي أخذت زخماً متصاعداً في الوقت الراهن، وقد اتخذت قرارات غاية في الأهمية في مؤتمره في ليفربول في الصيف الفائت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وصف فيها (إسرائيل) أنها مذنبة بإرتكابها جرائم (التمييز العنصري) ضد الفلسطينيين، وطلب من أعضائه خطوات مقاطعة مماثلة لتلك التي تم إتخاذها سابقاً ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا كجزء من النضال ضد سياسات التطهير العرقي الإسرائيلية، وبلورة خطلمقاطعة الشركات والبضائع الإسرائيلية من المستوطنات، كما أدان اختراق إسرائيل للقانون الدولي ببناء المستوطنات على الأراضي المحتلة وممارسة الاضطهاد ضد الشعب الفلسطيني واعتقال وتعذيب الأطفال الفلسطينيين في غزة والضفة، بل والقوانين العنصرية التي تستهدف المواطنين الفلسطينيين في (إسرائيل).
وفي نفس السياق يأتي أخيراً البيان المشترك الذي صدر في 04-11-2014م عن ثلاثمائة وخمسة من مؤسسات ونقابات العمال وجمعيات حقوق الإنسان وأحزاب سياسية أوروبية، تدعو فيه الاتحاد الأوروبي إلى تعليق إتفاقية الشراكة التي تربطه مع (إسرائيل) لمحاسبة إسرائيل على المجزرة التي ارتكبتها في غزة خلال صيف هذا العام، حيث وصف البيان أن استمرار وجود هذه المعاهدة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل (يقوي العلاقات الثنائية، ويرسل رسالة إلى إسرائيل مفادها، أنها غير ملزمة بالالتزام بالقانون الدولي) وأضاف البيان أن (الفشل في فرض هذه الإجراءات على إسرائيل هو بمثابة ازدواجية في المعايير، يرقى إلى دعم مادي لانتهاكها للقانون الدولي، ودعا البيان إلى إتخاذ إجراءات تدين إسرائيل لاستهدافها المدنيين خلال الحرب الأخيرة على غزة)، وقد صرحت السيدة أنيتا جيرسكا المنسقة الأوروبية للجان وجمعيات من أجل فلسطين (ECCP) أنها ستقوم بحملة لحث المواطنين على التواصل مع أعضاء البرلمان الأوروبي، للنقاش حول إتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.
وهكذا مع تنامي التغيير في الرأي العام الأوروبي باتت إسرائيل اليوم تعيش عزلة لا سابق لها وحسب الكاتب الإسرائيلي أوري سفير تفقد ليس فقط الشريك التجاري الأساسي بل أيضاً الشريك القيمي والفكري المهم، ويقول: (الأوروبيون لم يعودوا يريدوننا، إذ برأي الكثيرين لم نعد ننتمي إلى المؤسسة القيمية التي توحدهم: مناهضة الاستعمار، واحترام حقوق الإنسان، وتأييد التعايش السلمي).
إن هذا التغيير في الرأي العام الأوروبي سوف يمثل الرافعة للمواقف الرسمية لدول الاتحاد الأوروبي، لتكون أكثر فاعلية في الضغط على الكيان الصهيوني لوقف سياساته العنصرية والقمعية ضد الشعب الفلسطيني، ودعم وتأييد حقوقه في وطنه وإقامة دولته المستقلة، والاعتراف الرسمي بدولة فلسطين كما فعلت مملكة السويد مؤخراً، وليتتابع الاعتراف من بقية دول الاتحاد الأوروبي في ظل إنكشاف وتعرية سياسة ومواقف حكومة الكيان الصهيوني التي اختارت الاستيطان والعنف بدلاً من السعي لتحقيق السلام والأمن للجميع.
ولذا يجب أن يدرك قادة (إسرائيل) أن أكاذيبهم عن الأمن والسلام لم تعد تنطلي على الرأي العام العالمي، وأن الحقيقة باتت واضحة، فإما أن تخضع (إسرائيل) للقانون والشرعية الدولية، وإما أن تبقى دولة مارقة فوق القانون والشرعية الدولية، وعندها ستواجه نفس المصير الذي واجهته دولة جنوب إفريقيا العنصرية، لأن العالم لن يقبل بأن يستمر الاحتلال وأن يشيد كياناً جديداً للفصل العنصري يهدد الأمن والسلام في المنطقة وفي العالم.