هبطت أسعار النفط في الآونة الأخيرة بشكل متسارع وبشكل مفاجئ.. وخرجت التحليلات من كل حدب وصوب حول الأسباب الحقيقية لذلك.. فالهبوط لم يكن تدريجياً والأسباب غير واضحة، فكثير من المنتجين في أوبك ذاتها كليبيا، ونيجيريا، والعراق
خارج نطاق قدراتهم الإنتاجية المعتادة، والمؤشرات تدل على تزايد الطلب العالمي للطاقة.. فجاءت التفسيرات متباينة، تارة سياسية كمحاولة الضغط الاقتصادي على بعض الدول المنتجة كإيران وروسيا، مبرراً بقدرة المنتجين الآخرين مثل المملكة على تحمُّل مثل هذا الهبوط لوجود احتياطيات مالية كبيرة لديها، وهو الأمر الذي نفاه وزير البترول السعودي واستبعده تماماً.. وتارة أخرى مبررات أخرى اقتصادية كمحاولة تقليص الجدوى من الاستمرار في إنتاج النفط الغاز الصخري المتوفر بكميات ضخمة ربما تتجاوز الخمسة بلايين برميل موزعة بين أمريكا، والصين والأرجنتين.. بالرغم من أن دخول النفط الصخري للسوق لم يكن مفاجئاً مثل هبوط الأسعار.. ولا يعرف حتى حينه إلى مدى ستتهاوى الأسعار، وعلينا أن نفكر كما لو أنها مستمرة في الهبوط.
المملكة ليست المنتج الأكبر للنفط ولكنها المصدر الأول له، واقتصاد المملكة أدمن النفط واعتمد عليه لوقت طويل.. فقد قدم النفط، مع الأرقام العالية للتصدير، دخلاً ميّسراً للدولة وجعلها من أفضل الدول دخلاً في العالم. ورغم الكلام عن تقليل الاعتماد على النفط لخطورة اعتماد الاقتصاد على مصدر دخل واحد ومن مورد ناضب، إلا أن نجاح محاولة تنويع مصادر الدخل كان محدوداً في عالم تتصاعد فيه وتيرة التنافس العالمي العلمي والتقني.
وهنا قد يكون في هبوط أسعار النفط دروس مستفادة لنا فيما لو اعتبرناه سيناريو مصغراً لنضوبه أو استغناء العالم عنه كمصدر للطاقة، فللوفرة المالية من تصدير مصادر ثروة طبيعية مساوئ كبيرة إضافة لمحاسنها ومن أهم مساوئها إشاعة الاتكالية والكسل في الاقتصاد وتقليل الكفاءة والشفافية في المصروفات نتيجة لتزايد وتراكم الإيرادات، وربما أيضاً المساعدة على انتشار الفساد ومحاولات الإثراء السريع غير المشروع.. وهنا يمكن أن نرى في هبوط أسعار النفط فوائد كبيرة لنا، فرب ضارة نافعة، ولكن ذلك مشروط بتعاملنا بشكل فعّال مع هذه الظاهرة.. فليس هناك أمر سيئ بالمطلق أو أمر جيد بالمطلق، ولكل أمر جوانبه الإيجابية وجوانبه السلبية، والتخطيط الجيد هو ما يوازن العوامل الإيجابية والسلبية بشكل يؤكد الأولى ويحد من الثانية.
تقلص الإيرادات نتيجة لانخفاض إيرادات النفط سيؤدي حتماً لتقلص الإنفاق أو زيادة العجز في الميزانيات القادمة على أفضل تقدير.. وهبوط أسعار النفط قد يستمر معنا لوقت طويل لأن المؤشرات الاقتصادية تشير إلى ركود مستدام في كبريات الاقتصاديات العالمية، فسياسات التيسير الكمي وخفض قيمة الفوائد لمستويات تاريخية لم تنجحا في إخراج هذه الاقتصاديات من مراحلها الركودية، وقد اعتمد الاقتصاد العالمي إلى حد كبير على الصين والهند لزيادة الطلب في العقود الأخيرة لتقليل أثر الركود العالمي، ولكن لو تغيرت المعطيات الاقتصادية في الصين أو الهند بشكل أو بآخر، كأن تكون هناك اضطرابات عمالية مطالبة بزيادة الأجور مثلاً في الصين، لربما لحقت الصين بالدول الأخرى، فهناك مخاطر حقيقية من انفجار فقاعة القروض الداخلية الصينية مما سيزيد الطين بلة ويساهم في استدامة الركود الاقتصادي العالمي، ولذلك يرى بعض الاقتصاديين العالميين أن القرن الواحد والعشرين هو قرن الركود الاقتصادي، ويرون أن الحسابات الاقتصادية المحافظة يجب أن تكون على هذا الأساس.
الواضح والجلي في وضعنا الاقتصادي هو الفوضى، ولنسمها الفوضى الخلاّقة مع الاحترام الوافر لمن أتى بهذا المسمى.. وما نقصده بالفوضى هو عدم تناسب تكاليف المشاريع مع ما يصرف عليها حقاً، وكذلك غياب الأولويات سواء في المشاريع أو في تحديد الاحتياجات أو الأولويات، ولا تخفى على أحد مشاريعنا الزراعية في الثمانينيات وتصدير القمح، أو قرى الطاقة الشمسية التي تبخرت فجأة مع ازدياد حرارتها، والأهم من هذا وذاك هو الفجوة الكبيرة بين التعليم والحاجات التنموية بالرغم من أن للتعليم حصة الأسد في مصروفاتنا، فما زال دور الجامعات يقتصر على تزويد الدولة بالموظفين الإداريين، وما زال القطاع الخاص باستثناء قطاع البتروكيماويات يسهم إسهاماً محدوداً في التنمية وتوظيف الشباب.. وما زال الاقتصاد لدينا يعتمد على يد عاملة رخيصة مستوردة، واستهلاكنا للماء والطاقة والكهرباء وغيرها غير معقول وغير مرشَّد، كما أن هناك لدينا نمواً سكانياً متسارعاً غير منضبط.
ولذا فقد يكون من الحكمة عدم اللجوء للاحتياطات المالية الخارجية لتعويم ميزانيات ضخمة للمصروفات، وقد يجدر بنا النظر لهذه الاحتياطيات المالية على أنها احتياطيات إستراتيجية لا يُلجأ لها إلا في حالات الضرورة القصوى، وعِوضاً عن ذلك يتوجب علينا زيادة كفاءة الاقتصاد وتكييفه مع الموارد المتاحة، وهذا ممكن جداً ويشترط الجدية والحزم.. فمعروف أن كثيراً من مشاريعنا الكبيرة سواء في البنية التحتية أو غيرها ذات كلفة عالية مبالغ فيها أحياناً، وربما نفذ بعضها بعقود باطنية ستكون متاحة في ظل تراجع الإيرادات.. كما أن إنشاء شركات مقاولات حكومية تنفذ المشاريع المختلفة أصبح اليوم ضرورة مُلحة للتوطين الفعلي للتقنيات ولتطوير الكوادر السعودية التي أفقدتها البطالة الكثير مما تعلمته وتدربت عليه.. فلا يعقل أن نكون ورشة بناء في العالم ونعتمد في ذلك على شركات أجنبية بالكامل ليستفيد منها عدد محدود من السماسرة العاطلين يأخذون نسبًا ضئيلة من دخلها.. وهنا يجب تفعيل دور وزارة العمل التي يقتصر دورها اليوم على تنظيم الفيز والعمالة التي تحضرها الشركات الخارجية.. ولو طبّقنا مراجعة للمشاريع الكبيرة لدينا بالآلية ذاتها التي راجعنا بها مؤخراً بعض صكوك الأراضي لتعجبنا من وضعها ومستوى تنفيذها.. فوجود شركات وطنية للإنشاءات حكومية، شبه حكومية، أو مساهمة سيخلصنا حتماً من مقاولات الباطن وسيحسن كفاءة مشاريعنا الإستراتيجية وينعش الاقتصاد المحلي. وبالمختصر المفيد، إذا قلَّت الموارد الخارجية من النفط علينا تقليص خروج الأموال والموارد من الداخل للخارج بقدر المستطاع.
العامل الآخر هو زيادة كفاءة التعليم العام والاعتماد على الكفاءة الكيفية لا الحشو الكمي وتدريب الدارسين على طرق التفكير الحديثة والابتعاد بهم بقدر الإمكان عن الحفظ والاجترار، فالتوجه يجب أن يكون للمستقبل لا الماضي، ونحن حققنا الكثير مما يمكن البناء عليه والمملكة تعج بالقدارت المعطلة التي يتمناها أي اقتصاد ناهض ولكن إدارتها لا تتناسب مع كفاءتها، فكل طاقة معطلة تُعتبر عبئاً إضافياً على الاقتصاد بدلاً من أن تتحول لعامل إنتاج وبناء.. فلو زدنا من كفاءة المشاريع وطبقنا معايير صارمة للشفافية في كل مشاريعنا وصفقاتنا، ومنعنا اليد المستغلة والعابثة من الوصول لها لكانت فائدتنا مزدوجة: أن نقلل من آثار هبوط أسعار النفط، ونزيد من كفاءة الاقتصاد.. وأنا متأكد أننا سندهش أنفسنا أولاً والآخرين فيما بعد بما سنكتشف أننا قادرون على إنجازه، وكنا نعتمد لأمور غير موضوعية على قدرات خارجية لإنجازه لنا.. ولكن التغيُّر والتغيير يتطلبان شجاعة، وحزماً، وعملاً جاداً.