في كل منتدى اقتصادي يتطرق لهيكلية الاقتصاد السعودي، أو أحد مكوناته، لا يخلو من عرض أو مداخلة حول التستر التجاري، وأنه عائق للنمو الاقتصادي ومهدر للثروة الوطنية، ومنافس للمواطن في الاستفادة من الفرص الكامنة في الاقتصاد السعودي، وأحد أكبر عوائق ريادة الأعمال فيها. ففي منتدى جدة للموارد البشرية، الذي باشر فعالياته يوم الأحد الماضي، لم يخلُ الطرح من الإشارة للتستر التجاري، بوصفه أحد عوائق توظيف المواطنين من جانب، وعائقاً لنمو الأعمال من جانب آخر نتيجة تشدد وزارة العمل في منح تأشيرات الاستقدام وتحسسها من كون ذلك يغذي التستر، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وفي أكثر من مناسبة بيّن معالي وزير العمل أو أحد منسوبي وزارته أن المؤسسات الصغيرة هي مكمن التستر التجاري؛ وبالتالي كانت هي المستهدفة بقرارات الوزارة الرامية للحد من التستر.
التستر التجاري ظاهرة عالمية في كل الدول التي تحتكر النشاط الاقتصادي أو بعضه لمواطنيها، ويأخذ أشكالاً وصفات متعددة؛ فقد يكون في صورة بقالة صغيرة، أو منشأة عملاقة.. فالتستر التجاري هو علاقة بين مواطن يستخدم حقوقه في ممارسة النشاط التجاري المحتكر للمواطنين، كوسيلة استثمار يوفرها لطرف أجنبي لديه القدرة والخبرة في ممارسة النشاط، مقابل مبلغ مقطوع أو محدد بنسبة من الأرباح. ويحكم هذه العلاقة عقود وترتيبات، تحمي الطرفين من غولة بعضهما على الآخر. ولكن هذه الترتيبات لا تتمتع بحماية نظامية كاملة؛ لذا كثيراً ما تصطدم هذه الترتيبات بالمستجدات التي تواجه النشاط من توسع أو ضمور أو خسارة، وتولد خلافات بين المتستر والمتستر عليه، قد تقود لكشف العلاقة للجهات الرسمية أو للقضاء، وهو ما يحتاط له كثير من أرباب التستر، فيرتبون ضمانات تحكم تعاملاتهم. والتستر في بعض البلدان أصبح هو السائد. ففي بعض بلدان الخليج العربي بات التستر مشروعاً، ويوثق في السجل التجاري اسم المستثمر الأجنبي إلى جانب المتستر، الذي يشار له باسم «الضامن»، أو «الكفيل». وبناء على ذلك يحصل المتستر على عقد نظامي، يرتب له دخلاً من المتستر عليه، ويحمي مصالح المتستر عليه.
التستر بوصفه علاقة بين المواطن والمستثمر الأجنبي هو علاقة مصالح متبادلة، تماثل العلاقة بين ترتيبات أخرى، مثل الشراكة من طرف مواطن خامل وطرف أجنبي نشط، أو ما يسمى الشركة الأجنبية «Joint Venture»، وهي صفة معظم نشاطات الشركات الأجنبية في المملكة. الفارق بين التستر والاستثمار الأجنبي هو أن الأول وسيلة لتخطي بعض العقبات النظامية والاحتكارات التفضيلية، في حين أنه لا خلاف في جوهر الاتفاق؛ فمعظم شركات الاستثمار الأجنبي يكون الشريك السعودي غير فعال في الإدارة أو في تسيير استراتيجية الشركة؛ فهو لا يعدو شريكاً في العوائد فقط، وفي الغالب عندما تنتهي العلاقة فإن الشريك السعودي لا يستبقي النشاط بأي صورة كانت. لذا، فهو صورة من صور التستر النظامي الممارس في بعض دول الخليج العربي.
لا شك أن التستر له أضرار اقتصادية على بنية الأعمال التجارية عندما يتجنب الصيغ النظامية، ويصبح سوقاً سوداء للأعمال. ولكن التستر يزدهر كلما كانت الإجراءات التفضيلية كثيرة ومعقدة، وكلما اتسعت هوة الفراغ في النشاطات الاقتصادية نتيجة ضعف بنية التمويل وعلو مخاطر فشل ريادة الأعمال؛ لذا، وحتى نحد من التستر، لا بد من معالجة أسباب نشوئه وازدهاره. ومن أهم تلك الأسباب عدم تطبيق كثير من الأنظمة، وأهمها «نظام الدفاتر التجارية»، وخصوصاً في النشاطات الصغيرة ذات رأس المال الأقل من «مائة ألف ريال»، وتسهيل إجراءات تمويل ريادات الأعمال وحماية رواد الأعمال من الفشل والإفلاس. وربما يكمن معظم الحل لإضعاف التستر في وضع نظام إلزام أي أجنبي مهما كانت وظيفته بفتح حساب مصرفي، يمثل قناة وحيدة لمصدر دخله، وأي مبالغ يحصل عليها لا تكون من خلال الحساب المصرفي تكون عرضة للمصادرة مهما بلغت. هذا الإجراء يضمن شفافية الأعمال، ويجعل التستر عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ ما يدفع المستثمر الأجنبي لسلوك السبل النظامية في النشاط الاقتصادي داخل المملكة.