يمر الإنسان، مثل مخلوقات الله الأخرى، بتبدلات مرحلية، تكون المراحل الجسدية منها لا تخضع للاختيار، ومحكومة بالتطور البيولوجي الذي أودعه الخالق في الإنسان. المراحل الفكرية تخضع جزئياً للاختيار حسب القانون المتضمن في التكليف الإلهي في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّه عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاه النَّجْدَيْنِ}.
أحاول جاهداً أثناء العقدين الأخيرين من حياتي الخاصة تجميع ما تبقى من قواي العقلية؛ لعلها تساعدني في التعامل مع ما تراكم عبر السنين من الشحن التربوي والعاطفي، ومما تركته المواقف والتجارب والقراءات المتشعبة من مخلفات. مررت في دورة حياتي الخاصة حتى الآن بثلاث مراحل، قررت أن أسميها على التوالي: مرحلة الجهل الفطري البريء، تليها مرحلة الحشو التعبوي العشوائي، وآخرها مرحلة محاولة الفرز العقلاني. لا أدري إن كانت سوف تليها مرحلة رابعة، تخريفية مثلاً. أسأل الله حسن الختام.
أثناء مرحلة الجهل الفطري البريء كان عالمي الخاص يتمثل في بلدتي الصغيرة، بأصواتها وروائحها، وبأهلها من حضر وبادية، وكلهم يحتكمون إلى نفس القاضي الوحيد لا غير، وكامل السلطة التنفيذية في يد أمير واحد، ليس له من الأدوات التأديبية سوى خادم واحد فقط لا غير. كنت أسمع من الكبار آنذاك أن هذا العالم من حولي بكامله يحكمه رجل واحد اسمه الملك عبدالعزيز بن سعود في مدينة العارض (هكذا كنا نسمي منطقة الرياض قديماً)، وأن سلطته تشمل كل العالم بجهاته الأربع.
في أواخر المرحلة الابتدائية التحق بمدرستنا معلم فلسطيني، اسمه محمد خاطر، وكان رجلاً خمسينياً عصبياً، حفرت مرارة التهجير القسري وفقدان الوطن خطوطاً عميقة من التجاعيد في حركاته وسكناته وتعابيره. منه تعرفنا عياناً بياناً لأول مرة على قضية اسمها احتلال أو نكبة فلسطين، وتوسعت مفاهيمنا بإضافة مصطلحات جديدة علينا، كالتضامن العربي والإسلامي والمصير المشترك.
جزء من المرحلة المتوسطة وكامل المرحلة الثانوية كانت في الرياض، في عالم يعج بمختلف اللهجات المحلية والعربية الوافدة، من مصر وسوريا وفلسطين والعراق. لم تكن اللهجات وحدها تختلف، بل أيضاً محاولات التأثير في عقول الطلاب القادمين من بيئات ساذجة بعقول قابلة للتعبئة؛ فقد كانت مختلفة ومتنافسة، ولكن بالتأكيد بدون شحن عنصري.
قبل أن أسترسل في السرد، أسجل النقطة المهمة الأولى والأكثر إيجابية في كل تلك المراحل. كانت المرحلة الثانوية عولمية بامتياز، إلا أنها - وهذا هو الأمر البالغ الأهمية - لم تكن تتضمن أي شحن أو محاولة تأثير مذهبي أو طائفي أو إقليمي. هكذا حدثت بدايات العولمة الفكرية نتيجة للاختلاط المفاجئ بعقليات قادمة من بيئات عربية أخرى، وبمفاهيم أخرى غير تلك الفطرية الساذجة في عالمي الأول.
إذاً، فقد حفلت تلك المرحلة باستيعابات تثقيفية جديدة مضافة إلى ما نتعلمه في دروس التاريخ عن حروب الردة وتاريخ الخوارج والصراع العلوي الأموي ثم العباسي، إلى آخر السياقات التاريخية. كل ذلك أحدث تغيراً واضحاً في الشعور القديم بالانتماء المحدود، ونحو انتماء أوسع وأشمل وغير محدد العوالم سوى محتواه من العواطف المشتركة.
هكذا توسعت الانتماءات، وتشعبت، وأخذت ملامح تعبوية تنافسية، وهذه هي المرحلة التي أسميها المرحلة التعبوية العشوائية، أو مرحلة الجهل الملتبس بالحشو المعرفي العشوائي. أؤكد هنا أنه لم يكن يوجد شحن عنصري آنذاك، لا مذهبي ديني، ولا إقليمي أو طائفي، ولا من أي نوع آخر. الجميع كانوا متوافقين على الانتماء المشترك لنفس الجغرافيا واللغة والتاريخ، أما البقية فكانت تفاصيل لا تفسد للود قضية.
استمرت الأمور هكذا أثناء البعثات الدراسية في الخارج مع توسع أكبر في الحشو المعرفي العشوائي، لكن العنصرية المذهبية أو الإقليمية أو الطائفية لم تكن في وارد التفكير. ما يستحق التسجيل كأولوية هنا، ويحمل أهمية قصوى للتعايش الوطني المحلي في المملكة العربية السعودية، أنه لم يكن حتى ولا في وارد التفكير إيجاد اختلاف مذهبي أو طائفي أو مناطقي بين الطلاب السعوديين القادمين من مختلف المناطق السعودية. الصداقات البينية بين الطلاب كانت تبنى على تمازج الطبائع والهوايات فقط.
رغم الخضات السياسية الإقليمية سارت الأمور على هذا المنوال وبهذه الأخلاقيات والمثاليات، حتى سحبنا من أعناقنا إلى ما سمي بالجهاد المقدس في أفغانستان، وإلى ضرورة مواجهة شعارات الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومحاولات تصديرها إلى دول الجوار. أتوقف هنا لأذكركم بالعنوان: من متطلبات التعايش التصالح مع التاريخ المشترك؛ لأستكمل بقية القصة بعد يومين في هذه الزاوية إن شاء الله.