الإسلام دين مقنع في نصوصه وتعاليمه وكل ما يتعلق به، ويجب أن يتم تحرير الفهم لباب الولاء والبراء على أصوله، وليس معناه البدء بالعداء والشيطنة والكره والسفك والاستباحة، ولذلك ترك الإسلام الأمر والخيار لأهل الذمة من الأمم الأخرى ولم يجبرهم على الإسلام حينما كانوا في ظله، لأن المحصلة النهائية أن هؤلاء سيسلمون بسبب التعامل الصحيح والعدالة المتحققة لهم واحترام آدميتهم في ظل المسلمين،
ولكن من يرى حال المغامرين والحزبيين اليوم تتقطع نياط قلبه بسبب ما وصلت إليه تلك الحال، حينما يعتقدون أن إكراه الناس على الإسلام بشن الحروب وسفك الدماء واستباحة الأعراض والرجوع بهم إلى زمن السبايا والجزية التي كانت معاملة بالمثل في تلك الفترات، وتصالحت البشرية في معاهداتها وتطبيقاتها على تركها ونبذها، والإسلام والمسلمون أولى بتطبيقها من غيرهم، لأنها تتفق مع ما جاء به الإسلام، ويدرك أننا نعيش أزمة لا مثيل لها في تاريخنا الإسلامي منذ الابتداء، ولا أدل على احترام آدمية الناس وعدم إجبارهم من قصة سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يوم أمر الشاب القبطي المسيحي بضرب ابن عمرو بن العاص حاكم مصر في حضرة كبار الصحابة وأمام أبيه عمرو بن العاص، وقال قولته المشهورة : «اضرب ابن الأكرمين، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!!».. لم يقل أمير المؤمنين هذا مسلم وهذا كافر ليعطي الأمة درساً وبياناً للتعايش الحقيقي وإعلاناً لحقوق الإنسان واحترام آدميته وإقرار مبدأ العدل والمساواة؟ وقد مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلي ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فأطعمه وسقاه وتلطف مع في الكلام، وأعطاه بعض ما يحتاجه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: (انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم)، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه، وكتب للولاة أن لا يكلفوا الناس إلا ما يطيقون، وأن يسقطوا الجزية عن الكبير والعاجز ويفرضوا لهم من بيت مال المسلمين ما يكفيهم، ولم يقل عمر هذا كافر يستحق الذبح والجوع والفقر . وجاءته امرأة عجوز يهودية تشتكي لأمير المؤمنين عمر حالها وتصفه بالفقر والعوز، ولديها ابن مريض لم تستطع علاجه، وعندما فرغت من شكواها وعمر يصغي إليها بأدب وتواضع جم، رحم حالها الفاروق، ورق قلبُه لها وأخذها إلى «بيت مال المسلمين»، وفرض لها ما يكفيها ويكفي علاج ابنها، ففرحت وشكرته ونادته بأمير المؤمنين، فاستغل عمر هذه الفرصة واللحظات المناسبة للموقف ليطلب من اليهودية شيئاً لمصلحتها دنياً وأخرى، فقال لها مشفقاً: «يا أمة الله، إني أدعوإلى الإسلام ففيه خيريْ الدنيا والآخرة»، ومع هذا اللطف والتلطف في القول، ومع مهابة عمر، قالت اليهودية في حرية وأمان واعتراض: «أما هذه فلا يا أمير المؤمنين»، ونادته بالإمارة كأنها مقرة له بذلك، ندم على استغلال هذه الحاجة لدعوتها إلى الإسلام، وتمنى لو دعاها في ظرف زماني آخر، وفرصة غير فرصة الحاجة والعوز، وخاطب نفسه يؤنبها قائلاً: «يا عمر!! أليس هذا من الإكراه في الدين؟»، ويؤثر عنه قوله: «يومان يؤرقان عمر، يوم الحديبية، ويوم قصته مع اليهودية»....
وبعد استحضار كل قيم العدالة والتسامح من قبل الإسلام، لم أجد فيما أعلم عالماً من علماء المسلمين مفترى عليه أكثر من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الإمام المجدد المجتهد الفاهم لمقاصد الإسلام وسماحته على الوجه الرباني، وقد حملوه ما لا يحتمل وافتروا عليه بما لا يثبت، والذي ميز شيخ الإسلام أنه نجح في تطبيق علمه في أرض الواقع والجهاد، ويكفيه أنه ضد فكرة قتل الناس وشن الحروب عليهم وغزو العالم، واستباحة ما عصمه الله جلّ وعلا بطرق ملتوية وفهم خاطئ ودليل غير صريح وتخيلات واهمة في ذهن من يرى العنف، وهم لا يشعرون أنهم يصدون عن سبيل الله ويخرجون الناس إلى الظلمات نسأل الله العافية...
إن من يهددون ذلك العالم بجئناكم بالذبح، في صور مقززة ومشاهد إدانة تثبت أنهم مخالفون لسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والسراج المنير، حينما ضبط مسائل الجهاد بعامة وفهمها خلفاؤه الراشدون والتابعون لهم بإحسان، ولا أدري لماذا يغيب عنهم ما نص عليه العلماء واختلفوا فيه، والاستفادة من خلافهم وفهمهم بما يخدم أي مرحلة من مراحل تاريخنا الإسلامي، فما كان رأياً راجحاً في حقبة قد يكون رأياً مرجوحاً في حقبة أخرى، بناءً على المصالح المرسلة التي اعتبرها الشرع وجعلها قواعد محكمة في واقع المسلمين، وفي هذا عظمة الدين والملّة وصلاحها لكل زمان ومكان، وخير ما يستدل به على المهيجين للأمم وما يرد به حجج المغامرين الذين يكرهون العالم والناس، ما وضعه أبو داود في سننه: «باب في النهى عن تهييج الترك والحبشة». وروى فيه أبو داود (4302) والنسائي (3176) والبيهقي (19068) عَنْ رَجُلٍ مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ)، ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (10389) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .ورواه أيضاً (882) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وحسّنه الألباني في «صحيح أبي داود» وغيره. وقد تم تطبيق هذا الحديث في واقع المسلمين، إذ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (13/ 196): «وفي هذه السنة (سنة ثلاث وأربعين وستمائة) كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم)»..
وهذا الحديث الحسن المعتبر، يؤكد لنا جواز القياس على ترك الأمم ذات البأس والقوة والمنعة والفتك والمكر، وبخاصة إذا كانت تملك السلاح والعلم والتكنلوجيا مقابل ضعف المسلمين، وهذا الذي فهمه سماحة العلاّمة ابن عثيمين في قوله: «وأنّ الدعوة للقتال مع وجود العجز إنما هي ضرب من ضروب الحماقة.» وقال أيضاً: «إنه من الحمق أن يقاتل قائل إنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وإنجلترا وروسيا، كيف نقاتل هذا تأباه حكمة الله عزّ وجل، ويأباه شرعه. لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عزّ وجل {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى». المصدر: (شرح كتاب الجهاد من بلوغ المرام الشريط الأول)..
ويؤكد أيضا أن جهاد الكفار وقتلهم ليس لأجل الكفر وإنما لأجل حربهم وبغيهم وظلمهم للمسلمين، ولذلك نهى رسول الله عن قتل الصبيان والنساء والرهبان وكل مسالم، ويؤكد أن العالم الذي فتح أبوابه على مصراعيها للدعوة الإسلامية عن طريق المراكز الإسلامية والمساجد والقنوات الفضائية والإنترنت والمطبوعات ووسائل الاتصال الحديثة التي تيسر للمسلمين إبلاغ دينهم للعالمين، وارتضى الكراسي الإسلامية في أعرق جامعاته كهارفارد والسوربون وغيرها، فلا حاجة لغزو العالم بالصواريخ والدبابات والطائرات والجيوش الجرارة، فلا تجوز مقاتلته ولا الاعتداء عليه باسم الجهاد لأنهم أصبحوا ليسوا من أهل الممانعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين، والأول هو الصواب؛ لأنّ القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله)). وقال: ((والكفار إنما يُقاتَلون بشرط الحِراب، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وكما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة)). وما ألطف قوله رحمه الله في الصارم المسلول: ((وإذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجته، ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين عُلم أنَّ السب موجبٌ للقتل وإن كان هناك ما يمنع القتال لولا السب؛ كالعهد والأنوثة ومنع قتل الكافر الممسَك أو عدم إباحته. وهذا وجه حسن دقيق فإنّ الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق وليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودًا؛ فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع و لا العقول)). وقال في الفتاوى: ((في قتال الكفار هل سببه المُقاتَلَة أو مجرد الكفر، الأول: قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم، الثاني: قول الشافعي، وربما علَّل به بعض أصحاب أحمد... وقول الجمهور هو الذي يدلُّ عليه الكتاب والسنَّة والاعتبار)). وقال ابن القيم: ((ولأنّ القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزمني والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلن، بل نقاتل من حاربنا))..
وعطفاً عليه ما دام العالم اليوم منع الحروب والاعتداء والقتال تحت مظلة المعاهدات الملزمة، فالمسلمون أولى الناس بالالتزام بها لأنّ الإسلام يأمرهم بالوفاء بالعهد وعدم الخيانة وهو السلام والاطمئنان، وكل المغامرين الذين يستندون على فكرة غزو العالم وشن الحروب على الشعوب تحت مسمّى جهاد الطلب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقسم الجهاد إلى جهاد طلب وجهاد دفع وإنما كان هذا من الفقهاء المتأخرين، وكانت المصلحة في ربط الجهاد بالقدرة وأذن ولي الأمر ضبطاً لواقع الأمة من هؤلاء المغامرين والمتحمسين، قال الحسن البصري في مسائل الإمام أحمد : ( أربع من أمر الإسلام إلى السلطان: الحكم والفيء والجهاد والجمعة)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنّة النبوية: (الجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور)...
وعطفاً عليه وتحقيقاً لأهمية شرط إذن ولي الأمر في الجهاد القائم على مشورة أهل الحل والعقد في الأمة، فقد يقوم مغامر - وما أكثرهم هذا الزمن - بفعل يستفز به آخرين فتدفع الأمة بأسرها ثمن تلك المغامرة، ولا أدل على ذلك من اجتياح المغول للعالم الإسلامي وسقوط بغداد وحرمان الأمة من خير كثير، بعد أن قتل مغامر أربع مئة وخمسين تاجراً مسلماً قدموا من بلاد جنكيزخان، وهذا التصرف الأرعن بسبب الخرف في عقل المغامر أدَّى إلى أن يفكر المغول لأول مرة في تأريخهم بغزو العالم الإسلامي كما تقول المصادر...
إنّ الاعتداء ليس من الإسلام، ولا يليق به تشريع الذبح والسفك والغلو والبغي، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويوجِّهَهُم فيقول لهم مربيًا ومعلمًا في الحديث الصحيح: «لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ, وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ»، والسبب الرئيس في الإذن بالقتال هو أن المسلمين أخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً وظلمهم الكفار، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، وبعد الإذن لهم بالقتال أمرهم جلّ وعلا بعدم الظلم وألا يقاتلوا إلا من قاتلهم وأوصاهم بعدم الاعتداء فالله لا يحب المعتدين ، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، والجهاد عبادة ولا تكون العبادة بالاعتداء والظلم والبغي والتجاوز، قال تعالى في سورة التوبة وهي آخر ما نزل من القرآن: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، والدليل من واقع المسلمين أن جيوش الإسلام لم تتجه إلى الحبشة لأنها لم تحارب المسلمين، ونصرتهم من ظلم الكفار، وكفلت لهم حرية العبادة وهكذا فأي أمة اليوم تنصر المسلمين وتنصفهم وتسمح للدعوة وتحترم الدين فلا يجوز قتالها، وبخاصة أن الإسلام في الحقيقة لم ينتشر بالسيف وإنما انتصر بتحرير الإنسان ولذلك انتشر في بلاد الملايو: الفلبين وإندونيسيا وبروناي والمالديف وجنوب شرق آسيا بالقدوة الطيبة والأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة التي لقيها سكان تلك المناطق من التجار المسلمين دون غزو واجتياح وسبايا وجزية..
إنّ السفك للدماء هو سبب قول الملائكة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء..}، والعجب العجاب أن مفهوم الخلافة هو الإصلاح والعدل وحقن الدماء، ثم يأتي من يدعي الخلافة كبغدادي داعش الذي يهدد في خطابه الأخير روما والفاتيكان متناسياً الأحكام الشرعية للرهبان وما يكتنفها من محاذير الاعتداء على صوامعهم وكنائسهم ودمائهم وممتلكاتهم، وكل مسلم غيور على الإسلام يشعر بالأسى حينما يرى ويسمع من بعض المغامرين والحزبيين البشارة بغزو العالم والبلدان وسبي شعوبها ونهب ممتلكاتها والتباكي على الماضي المفقود، أدركت أن الخطأ ليس في الإسلام العظيم وإنما الخطأ كل الخطأ في تفسير المسلمين لنصوصه وتطبيقاتهم التي لا تخلو من الشخصنة وحب الذات وطموح النفس الأمارة بالسوء والتوسع في السلطات وتكوين الإمبراطوريات وضم مزيد من الأراضي، وتسخير كل مقدس في زيادة الصلاحيات على حساب المسؤوليات...
إن التزام عدل الإسلام وسماحته في عمارة الأرض أولى من التزام هذا العالم الذي يقر الأنظمة والمعاهدات فرضاً للعدالة بين شعوب الأرض، كما في ديباجاتها وأهدافها ورؤيتها وتطبيقاتها، والتي جاءت بعد حروب كونية وكوارث إنسانية وتجاوزات بيئية، ومن الحرام أن يبيت المسلم الصادق النية لغزو العالم ثم يريد من هذا العالم أن يتعامل معه بغير تلك اللغة العدائية، فيحل لنفسه ما يحرمه على الآخرين، وبخاصة أن تلك المعاهدات بين الدول تسعى لتحقيق العدل ونصرة المظلوم والمسلمون أولى الناس بها استحضاراً لضعف المسلمين وهوانهم على الناس، وكل حلف من هذا النوع فالإسلام يقره والدليل حلف المطيبيبن وحلف الفضول.
وأعتقد جازماً أن شيخ الإسلام ابن تيمية مهما اختلف حوله الباحثون، فسيبقى منارة عدل لم تستبن وقلعة علم لم يفتح أبوابها أكثر الناس، ومن ذلك حديثه عن جهاد الطلب، ومهما اختلف العلماء حول رسالته تلك فيجب أن تحرر دون اعتماد على الظن والتخمين والإنكار دون دليل، وأنا هنا لا أقطع برأيه، ولكن أعرضه على الباحثين لعل أن يستبين لهم ما يسد الخلل الذي اعترى ديننا العظيم، وأصبح مطية لكل مغامر وكل جاهل يستعدي علينا العالم ومؤسساته ويشيطن الناس ويفرض التوحش منا ومن ديننا الذي أتى بالتسامح والرحمة وليس بالذبح»، قال شيخ الإسلام في الفتاوى المجلد السادس عشر: «فَصْلٌ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَإِنَّهُ كَمَا أَرْسَلَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ بِلَا عِوَضٍ وَبِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَاحْتِمَالِهِ . فَبَعَثَهُ بِالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ عَلِيمٌ هَادٍ كَرِيمٌ مُحْسِنٌ حَلِيمٌ صَفُوحٌ. قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}» والرأي المنقول عنه أنّ الإسلام دفاعي وليس هجومياً كما يقال من خلال رسالته التي بعنوان: «قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم أو دفاع عن الإسلام»، وهي رسالة عظيمة في بابها خلص فيها شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنّ قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته وإنما هو الدفاع عن الدين، ترد على كل من يتهم الإسلام بالإرهاب والتوسع والحرب والعداء للآخر والجهاد وراء المحيطات، علماً أن هناك من أنكرها، لأنه يرى عدم قصر الجهاد في الإسلام على جهاد «الدفع» فقط، وهذا خلاف رأي كثير من علماء المدرسة العصرانية الحديثة منذ الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذ هذه المدرسة، ومن أهم مصادر الرأي: «رسالة التوحيد» لمحمد عبده، و»فتاوى رشيد رضا»، و«القرآن والقتال» لمحمود شلتوت، و«الدولة الإسلامية..» لمحمد عمارة، و«آثار الحرب في الفقه الإسلامي» لوهبة الزحيلي، و»الجهاد في الإسلام - كيف نفهمه؟» للبوطي وغيرها . وكانوا يعتمدون في ذلك على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام السالفة؛ كالشيخ عبد الله المحمود في رسالته «الجهاد المشروع في الإسلام»، ومحمد أبو زهرة في كتابه عن «ابن تيمية»، وصاحب رسالةالفريضة المفترى عليها» والله من وراء القصد ...