لم تتآكل بعد ماكينة الصحوة ولم تتوقف عن الإنتاج؛ فلا زالت خطوط عملها تشتغل بوتيرة أكثر تخطيطا وأدق تنفيذا وأبرع تسويقا وأذكى تنسيقا!
ذلك أنه قد أتيح لهذا الجيل من أسباب التواصل ما لم يتح للأجيال الصحوية السابقة؛ فأفادت من وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال وأدوات الإعلام الجديد من فيس بوك ويوتيوب وتويتر ووواتس أب وغيرها واستغلتها للتحشيد والتأليب وبث أفكارها ورفع راياتها وقذف خصومها وتنسيق أدوار الدفاع والهجوم!
كان دعاة الصحوة الأوائل مطلع التسعينيات الهجرية إبان بداية الحركة لا يظهرون إلا الوجه المتسامح، ولا يبدو منهم إلا الهدوء والأناة والطيبة المصطنعة والتقوى الظاهرية والصلاح المدعى؛ لإقناع الآباء والتقرب منهم للحصول على الثقة التي تخولهم الاستيلاء على الابن أو على عدد من الأبناء بكل الطمأنينة والاستسلام والشعور المطلق بالأمان؛ ذلك أن الأب الطيب المخدوع لا يدور في خلده أي شك على الإطلاق بأن ابنه محظوظ بهذه الرفقة الصالحة التي تدله على الخير وتبعده عن الشر، فهم جادون غير هازلين، ومقبلون على القراءة والاطلاع في الكتب التي تعنى بالفكر الإسلامي، ولا يبدو منهم ما يريب أو يدفع إلى الشك في سلوكهم أو منطلقاتهم أو أهدافهم؛ فكما يظهر من ترحلهم إلى الخلوات والفلوات والعمرة وزيارة أصحابهم وإخوانهم هنا وهناك أن غايتهم الصلاح «الذاتي» والابتعاد عن ضلالات الأفكار وانحرافات السلوك، فلم يلحظ على أحد منهم انحرافا أو شططا أو مظهرا من مظاهر الفسوق؛ كالتدخين مثلا، أو التقصير في أداء الواجبات الدينية!
أما وتلك هي الصورة الوردية الجميلة في مخيلة الأب عن «الجماعة» التي تطلق على مسيرتها الفكرية «الصحوة» وتدعو إلى تكوين جيل جديد يستيقظ من غفلته ويستوعب ما يخططه أعداء الإسلام والمسلمين؛ لإجهاض أية نهضة إسلامية تعيد العزة والكرامة للعالم الإسلامي؛ أما وتلك هي الصورة الجميلة من الحماسة التي لا تفارق لسان الابن الشاب ذي السابعة عشرة من العمر؛ فإنه في أيد أمينة لن يجد منها إلا كل خير وعون على مجاهدة النفس أمام دعوات الشر وإغواء المفسدين!
كان «الكاسيت» يجلجل في المنزل وفي السيارة بخطب حماسية لا تلهب وجدان الابن المندفع بفورة الشباب فحسب؛ بل تجعل دم والده الكهل الزاحف إلى الستين يغلي ويفور مما يسمع عن أوضاع المسلمين في كل مكان من العالم آنذاك في السنوات العشر قبل نهاية القرن الرابع عشر الهجري من كشمير إلى خليج مورو بالفلبين إلى فلسطين إلى تركيا حيث حكم العسكر العلمانيين وغيرهما مما تزيده مجلة المجتمع الصادرة عن جمعية الإصلاح الكويتية شرحا وإيضاحا؛ بحيث تصور المجلة مع خطب الشيخ عبد الحميد كشك العالم وكأنه ليس له قضية إلا وأد الإسلام واضطهاد المسلمين وتمزيقهم شر ممزق!
لا يمكن والحال هذه لشاب لم يناهز السابعة عشرة أن يفر من حصار التحريض والرفض والدعوة إلى التمرد على الواقع والانقلاب عليه إما جهرا أو سرا؛ فقد ألقي في روعه أن العالم كله يقف ضده وأنه بثباته على مواجهة العالم المتآمر عليه في حالة «جهاد» دائمة، وإن لم يستطع جيله أن يفعل شيئا؛ فإن الأمل يجب ألا ينقطع ولا يتوقف فمهمة قيام مجتمع إسلامي جديد تتصدره الطليعة الإسلامية الموعودة بالنصر والتمكين أمر حتمي لا مفر منه!
هكذا اشتغلت ماكينة الصحوة على مدى العقود الماضية مراوحة في خطاباتها بين المصادمة والمهادنة، والمواجهة والانزواء، والتخطيط خلال ثلاثة عقود لتمسك بمقود الحياة وتفرخ في مدرستها ثلاثة أجيال يقف بعضها الآن على رأس الخط التكفيري الأول في الجبهات المشتعلة في العراق وسوريا واليمن والصومال وغيرها، ويقف بعضها الآخر كامنا ينتظر ساعة الصفر في مواطن أخرى!
إن ثمر الصحوة المر هذه الفوضى المدمرة التي تعم العالم العربي والإسلامي، وهذا الإرهاب الذي يفتك ويعطل الحياة ويشوه قيم الإسلام ودعوته الإنسانية الخيرة.