تلتقي خطط التنمية الوطنية الشاملة مع أهداف التنمية الألفية في جميع الأهداف، ويُشكّل الهدف الأول الرامي إلى «القضاء على الفقر والجوع الشديدين» حجر الزاوية ومحور الالتقاء في منظومة الأهداف التنموية للألفية.. وتتعاضد جهود التنمية الوطنية المستدامة والتنمية الألفية في الحد من الفقر والجوع لضمان الاستقرار الوطني والسلم والأمن الإنساني العالمي.
تُعد معالجة الفقر والجوع الشديدين التحدي الأول للدول والحكومات والمنظمات، وتسعى هيئة الأمم المتحدة انطلاقاً من أهداف التنمية الألفية لعام 2000م في مرحلتها الأولى التي تنتهي بحلول عام 2015م، بالتعاون مع الدول الأعضاء إلى محاولة التقدم بشكل أسرع لتخطي مجمل الدول لخط الفقر، ومقاومة تهديد الجوع الذي يعيشه عددٌ كثير من سكان الكرة الأرضية.. لأنه مشكلة قديمة متنامية، وآفة اجتماعية متجذرة تعيشها البشرية عبر مراحل تاريخها الطويل، ناهيك عن أنها معقدة ومتداخلة في جوانب متعددة اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وبيئية تجعل معالجتها أكثر صعوبة.
يجعل كثيرٌ من دول العالم مهمة القضاء على الفقر على رأس قائمة أولوياتها، فنجح بعضها بالفعل في معالجة مشكلة الفقر، في حين يواجه البعض الآخر تحديات اقتصادية وتمويلية زاد من تعقيداتها التضخم المتزايد سنوياً والأزمات المالية العالمية.. ومع التلويح بشعار القضاء على الفقر بقوة في كافة الاجتماعات الدولية المعنية بالتنمية، لتصدر عنها قرارات وتوصيات مثالية من أجل الوصول إلى عالم خالٍ من الجوع، إلا أن الطموحات لم تتقدم كثيراً في هذا الجانب لأنها تصطدم بواقع الجشع المطبق الذي يسخر فيها الأغنياء الفقراء بأساليب سخرة تعمق الفقر بين الفقراء وتبسط مزيداً من الثراء للأغنياء.. إذ يعيش أكثر من 1.29 مليار شخص حول العالم على أقل من 1.25 دولار يومياً، بما يعادل (22%) من سكان العالم النامي ونصف أولئك يعيشون في شرق آسيا.
حققت الجهود الدولية لمكافحة الفقر انخفاضاً في عدد الفقراء ببعض الدول مثل الصين، والهند، والبرازيل، ومحاولة جزئية في إفريقيا التي لم تحقق إلا نسبة (3%) في خفض عدد الفقراء خلال 30 عاماً.. في حين أن هناك دولاً مثل الصومال وأفغانستان ما زالت تعيش فقراً مدقعاً.. الأمر الذي دفع البنك الدولي إلى وضع هدف جديد يرمي لخفض نسبة الفقر من (21%) عام 2010م إلى (3%) بحلول عام 2030م. من خلال استفادة الفقراء من النمو القوي والرخاء المتزايد في الدول النامية، والعمل على استغلال الدول الفقيرة التي تتمتع بموارد طبيعية وبشرية لهذه الإمكانات بأقصى قدر لتعظيم القيمة المضافة من هذه الموارد.. ويبدو أن مهمة حماية العالم من الفقر ليست بالمهمة المستحيلة، في حال وُضعت الموارد في إطارها الصحيح ووجهت الجهود نحو الأهداف بعناية.
يُعتبر الفقر المدقع، والمجاعات المؤلمة من أبرز المشكلات الكبرى التي أعجزت الدول في أساليب المعالجة وإجراءات التصدي، ومن أهم الموضوعات التي تتضمنها مشروعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وتؤكد عليها نتائج المؤتمرات واللقاءات الدولية.
وفي هذا السياق يُعتبر التركيز على تحسين الأوضاع المعيشية ومعالجة الفقر داخل أروقة الأمم المتحدة، طرحا إيجابياً استجابة للتغيرات الجذرية التي يمر بها المشهد الدولي في المرحلة الحالية، ومن الضروري توسيع دائرة الاهتمام الدولي باتجاه المجال الوطني، ليتجاوز النزاعات الداخلية إلى التركيز بعمق على هذا الهدف الذي بمقدار التقدم في تحقيقه ستتحقق الأهداف الأخرى بأعلى قدر.
اقتصاديات الفقر تثير تأملات في كيفية شبع الفقراء لأنهم لا يأكلون ما يكفيهم وقد يقدمون على شراء بعض الكماليات على الحصول على الطعام، وبالتالي لا يمكنهم العمل والإنتاج فيظل الفقراء فقراء.. والذي قد لا يُفهم تماماً إلا بالعيش معهم من أجل إعادة النظر في كيفية مكافحة الفقر في العالم، من خلال التعايش مع الفقراء في محاولة جادة لفهم المشكلات المحددة التي يبطّنها الفقر لاكتشاف المنهج الملائم لمعالجة مشكلة الفقر بأمضى وسيلة ممكنة لإيجاد الحلول العملية لهذا التحدي العالمي الخطير.
دعم المواد الأساسية لتخفيض أسعارها قد لا يكون دافعاً للفئة المستهدفة للتوجه لشرائها لارتباط ذلك بقدرتهم على العمل والإنتاج، ومن خلال تحليل جانب العرض والطلب الذي يمكن أن يحقق توقعاتهم المتمثلة في مدى توافر فرص وظيفية جيدة يمكن لهم الحصول عليها بمراعاة سوق العمل لقدراتهم وإمكاناتهم.. والتي تُشكّل الجزئية المجهولة التي ينبغي على صانعي السياسات ومتخذي القرارات اكتشافها ومراعاتها خصوصاً فيما يتعلق بمخاطر القروض التراكمية التي تدفع الفقراء باتجاه اتخاذ قرارات ذات عوائد اقتصادية تكاد تكون معدومة الأمر الذي من شأنه دفعهم للازدياد فقراً، في ظل التضخم العالمي الذي ارتفعت فيه الأسعار إلى مستويات عالية، وكأن سياسات القضاء على الفقر قضت على الفقراء.. إذ إن تسهيل عمليات الإقراض، وتوفير فرص القروض للفقراء بأسعار فائدة في نظرهم مفروضة عليهم لا بديل عنها، زاد من بشاعة التحديات التي تواجههم.. إضافة إلى التحدي الأصل المتمثل في الفقر.
إن الجهود الرامية إلى إيجاد عالم خال من الفقر أبعد من التحليل العقلي لمفهوم الفقر، والرفض الأخلاقي الشائع للفقر، بل والموروث المتوارث بين الأجيال بإرث الفقر.. إذ لا بد من تغيير النظرة جذرياً لفهم خلفية الفقراء ومكونات الفقر بالتركيز على إستراتيجيات وسياسات وخطط وبرامج وآليات تقوم على أساس القراءة الناقدة والتحليل المتأمل لواقع الفقراء، وما يعيشونه ويواجهونه في واقع حياتهم المعيشية، وقياس مكونات الموارد المتاحة لهم كماً ونوعاً وآليات توظيف وإنفاق تلك الموارد، والمواءمة بين المتحصل عليه منها واحتياجاتهم ومتطلباتهم الفعلية والذي بدوره يتطلب توجيه السياسات نحو الفقراء.
أسس الرسول عليه الصلاة والسلام لمنهجية رائدة في معالجة الفقر بتبني صحيفة الوفاق والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والتي تضمنت برامج اقتصادية، قواعد مالية، وأسساً اجتماعية، ومفاهيم نفسية لمعالجة الفقر وقهر التخلف لدى المهاجرين باقتسام الأموال مع الأنصار لترك أموالهم في مكة المكرمة وكأنه بذلك يرسم خارطة طريق لترسيخ مفهوم الأمن الإنساني في كل زمان ومكان.. ونادى الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمقاتلة من يمنع عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله للمحافظة على أدنى الموارد الاقتصادية.. وأوقف عمر الفاروق رضي الله عنه حد السرقة عندما تعاظم الجوع في عام الرماد, ونادى الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بالأخذ بكل السبل لمقاومة الفقر والخروج منه بمقولته الشهيرة «لو كان الفقر رجلاً لقتلته».. في مجابهة فريدة لأعتى داء فتاك عرفه التاريخ الإنساني ليؤصّل لنظرية اقتصادية رائدة بأن الفقر ليس مسألة قهرية على الناس عليهم الخضوع لها بل ممكن تخطيه وقهره بوسيلة يعرفها كل الناس.
توحي مجابهة الفقر بالموقف القطعي الرافض لوجود الفقر أصلاً، في حين أن مسلّمة وجود الفقر لا جدل فيها ولكن المستقر يكمن في المقبول بدرجة من درجاته يمكن العيش معها بكرامة.. ويعكس ذلك الخلط الرائج بين الفقر، وبين بساطة الحياة والابتعاد عن سلوك البذخ والإسراف.. ذلك أن الفقر يكمن في النسيج الاجتماعي وفي العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، وفي البنى والهياكل التنظيمية الوطنية والإقليمية والدولية، وفي مكونات عناصر الإنتاج من أرض، وعمل، ورأسمال، وإدارة، وآليات التبادل بين هذه المكونات والعلاقات التي تحكمها، في منظومة همّشت الفقراء وحيّدتهم عن المشاركة الفاعلة في إدارة المجتمع ورسم سياساته في أُطر تصيغ إستراتيجيات أنماط المعيشة المفروضة عليهم ضمن نسق تنموي يحرمهم الحق من المشاركة في صياغة خطط التنمية.
الفقر مشكلة في غاية التعقيد فهو متغلغل في ثنايا القواعد الاجتماعية، وفي واقع الأنساق الاجتماعية، وبين طيات النظام الاجتماعي، وفي قوى الضبط الاجتماعي.. ويقع ضمن منظومة القيم والعادات والتعاملات والمصالح والهياكل السائدة في المجتمع.. وبالتالي من الصعوبة مما كان معالجته خارج هذه المنظومة. وفي هذا السياق فإن المتأمل يشاهد ما يسوق له من نوايا حسنة وإرادات وأخلاق وتضامن وتقدم تقني ونمو اقتصادي وفائض في الثروات لم تكن كما أُريد منها، بل ما ظهر المفهوم السلبي لها، فقد عمّقت الفقر في محيط الفقراء ووسّعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء.. لأن معالجة الفقر تقتضي الوقوف على العوامل الأكثر إحداثاً له، والمتمترسة في الفكر والثقافة وهياكل المجتمع وشبكة العلاقات والمصالح في الداخل والخارج.. مما يجعل البيانات الموثوقة المعبرة عن خط الفقر الحقيقي بمستوى الدخل أو الإنفاق، وواقع الادخار، ورعاية حقوق الإنسان، والبحث العلمي، ومنطلقات التنمية المستدامة الأسلوب الأمضى في مجابهته في إطار البحث عن مقياس أكثر دقة وموضوعية لقياس حالة الفقر بالاتفاق على تعريف له، واستخدام أساليب واختبارات إحصائية ملائمة، وبناء مؤشرات تعكس حقيقة الفقر وعوامل شيوعه.
يبدو أن تردي الأوضاع المعيشية وتعاظم الفقر وارتفاع حدة المجاعات للشعوب أفرزت اختلالات سلوكية باتت تهدد السلم الأمن الدوليين، وهو معطى واضح يفرض على الأمم المتحدة دعم المقاربات التنموية للأمن الإنساني العالمي لضمان مستوى مقبول من الاستقرار بتخليصه من صراعات داخلية مدمرة وتهديدات للأمن على نطاق واسع بسبب انتشار الانحراف الفكري والتطرف والإرهاب.. وتغيير أنماط التعاون الدولي في مجال التنمية، الذي يخضع لمعايير غير عادلة تؤطرها ضوابط المؤسسات المالية الدولية التي في الغالب توجه لخدمة مصالح الدول المتقدمة متجاوزة بذلك واقع وخصوصيات الدول النامية.. ناهيك عن الخصائص المتفاوتة على المستوى الوطني والذي يؤدي بدوره إلى عدم الرضا الدولي عن الإنجاز التنموي المحلي في بعض المجالات.
يُشكّل النموذج الكلي للتنمية في إطار التنمية الألفية مفهوماً مشتركاً للأمن الإنساني في منظومة الأمم المتحدة كجزء لا يتجزأ من الأوضاع الإقليمية والدولية غير المستقرة التي سيطرت علها الثورات والصراعات الداخلية، وبالتالي أثّرت على الاستقرار الدولي، وزاد من حدة الاضطراب نشوب التحدي بين الأنظمة الحاكمة والشعوب في بعض الدول النامية خصوصاً بعض الدول العربية والذي صاحبه مزيدٌ من الغلو والتطرف والارهاب، ليضيف تحدياً مرحلياً على الأمم المتحدة، وهي في مرحلة التقييم النهائي للتنمية الألفية مساعدة الدول التي تعاني من هذه التحديات وتقديم معالم واقعية لجهود التنمية العالمية والوطنية بتحسين حقيقي وملموس في حياة الناس في إطار تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
تلتقي الجهود الوطنية مع أهداف التنمية الألفية في جميع الأهداف، وفيما يتعلق بالهدف الأول الرامي إلى القضاء على الفقر والجوع الشديدين فقد عمل الملك عبد العزيز - يرحمه الله - منذ بداية التأسيس على توجيه جل الموارد المتاحة لتخطي تحدي الجوع والفقر، وقد نجح - يرحمه الله - في ذلك بشواهد عصرية حوّلت ذاك المجتمع المعوز المشتت إلى مجتمع حضاري يمتلك مقومات العلم والمعرفة، ووسائل التقنية المحققة للرفاء الاقتصادي والاجتماعي، في منظومة وطنية متلاحمة تجسّد الولاء لوطن يمتلك مقومات التنمية المستدامة التي تكفل نصيب الأجيال القادمة في الموارد المتاحة.. ومنذ أن اعتمدت المملكة التخطيط التنموي أصبح مكون مقاومة الجوع والفقر برنامجاً محورياً في خطط التنمية الوطنية تركز عليه وتجعله من أهم أولوياتها.. إذ عملت على تنفيذ إستراتيجية مكافحة الفقر، وإنشاء صندوق مكافحة الفقر، وإقامة مشروعات سكنية للفئات محدودة الدخل، وزيادة مقدار القرض السكني، والتوسع في صناديق وبنوك الإقراض والادخار، إلا أن مفهوم الادخار ما زال غائباً في برامج تلك البنوك وبحاجة إلى تفعيل، وتعزيز أنشطة الجمعيات الخيرية والجهود المجتمعية الهادفة إلى معالجة مشكلة الفقر وتحييد عوامل تكونه.. وهي بذلك لا تجعله مقصوراً على المواطنين، بل بادرت بالمساهمة الفاعلة بالقضاء عليه محلياً وإقليمياً ودولياً وحققت في هذا إنجازات أكثر من التزامها الدولي انطلاقاً من مسؤوليتها العربية والإسلامية والدولية.