أذكر أني حضرت مصادفة، مهرجان «المزرعة» الذي يقام في مدينة آنسي الفرنسية على الحدود السويسرية، حيث يجتمع المزارعون فوق مساحة خضراء هائلة، ويعرضون منتجاتهم، ويحضرون أبقارهم وأحصنتهم، ويبيعون ما صنعوه من جبن ومربى، وحتى أدوات الزراعة والفلاحة، وسط أنغام الموسيقى المحلية، وزوار أتوا من مختلف المناطق الفرنسية، للاحتفاء بهذا اليوم، الذي يعيدون فيه الارتباط بكل أصيل وحقيقي بالنسبة لهم. لم يصرخ الناس أو يتبادلوا المقاطع الساخرة، ولم تغضب الصحافة، ولم يضج تويتر لاعنا تخلفهم وتعلقهم بالجبن الكرواسون، في حين تقترب أمريكا من المريخ، وتؤكد مختبراتها إيجاد دواء للسكري، وتبهرنا اليابان وكوريا الجنوبية بأحدث أجهزة التواصل والتفاعل مع العالم، وتتصدر النرويج قائمة أفضل دول العالم للعيش نظير جودة خدماتها الصحية والتعليمية، بل كان الجميع سعيدا وفخورا وممتنا لهذا المهرجان المحلي الذي أعاد تواصلهم مع هويتهم الفرنسية.
إذن، لماذا يا ترى يختلف الموضوع مع مهرجان الملك عبدالعزيز «لمزايين الإبل» الذي يقام سنوياً في نفوذ أم رقيبة؟ ولم يا ترى يثار حوله كل هذا الضجيج والاحتقان؟ ويوصف مرتادوه ومؤيدوه بالتخلف والانفصال الذهني عن متطلبات العصر؟ الأسباب باعتقادي، نفسية واجتماعية أكثر من كونها تتعلق بالإسراف وغسيل الأموال، وغيرها من التهم التي توجه للمهرجان والقائمين عليه، وهي بطبيعة الحال، أخطر من تلك الادعاءات وأكثر عمقا وتجذرا في نفسية الفرد السعودي، إذ يعاني بعض من أفراد المجتمع من حالة نبذ وكراهية لكل ما هو تراثي وصحراوي وذي طابع قبلي، وهو ما يقام عليه المهرجان تقريبا، إذ يعزز لفكرة القبيلة، ويستحضر عوامل بقائها على قيد الحياة، ويحتفي بكل تبعات وأسباب هذا الوجود الجمعي، ابتداء بالإبل، وصولا إلى الخيمة وبيت الشعر، وانتهاء بمهرجان التجمع والتباهي أمام القبائل الزائرة بقطيع الجمال، ونظم القصائد، وكثافة الحضور، وتلك حالة ذهنية وعينة رمزية أكثر من كونها حدثا سنويا فقط.
لكن لم يا تُرى توّلد هذا الشعور بالنفور من الماضي الزاخر بالصحراء والقبيلة بكل جفافه وعزلته أحيانا؟ النفط والطفرة الصناعية والحضارية التي عاشتها المملكة بعيّد اكتشاف البترول، ونزوح أعداد هائلة من الناس من الصحاري القاحلة والقرى النائية إلى المدن المتحضرة، ولّدت لدى أجيال لاحقة شعورا شبه كامل بانفصال، وحتى الرفض لفكرة الحياة الصحراوية، التي لا تعني لهم سوى كشتة شتوية لا أكثر، مقابل حياة مدنية أكثر أمنا واستقرارا وأوسع فرصا للتفاعل مع العالم، أما «أم رقيبة» فهي بكل رمزيتها تمثل لشريحة كبيرة من الجيل الجديد -شئنا أم أبينا- مرحلة زمنية منفصلة، فلا هم يفهمون قصائدها، ولا يثمنون إبلها، ولا يستوعبون العادات التاريخية والقبلية خلف أطنان الأرز واللحم فوق موائدها.. فيصابون بالقرف والغضب، لأنهم متعطشون للتغيير، ومؤمنون بالفرد أكثر من القبيلة، ومتعلقون بالمستقبل أكثر من الماضي، يتكلمون لغة السيلفي و»اللايك» و»140 حرفا» ومن خلالها يتنفسون، ويعبرون عن رغباتهم ومخاوفهم وطموحاتهم، بحاضر عصري، ومستقبل مزدهر ما زالوا يبحثون عنه.. فحين تصبح راضيا عن حاضرك، مستعدا لمستقبلك، حينها تتصالح مع ماضيك، وتتقبله دون أن تتصادم معه أو تنفر منه.
أخيرا وجب أن أقول، هذا المقال لا يعبر عن رفضي أو تأييدي لهذا المهرجان، بل هو محاولة متواضعة، لفهم وتحليل هذا الحدث بكل رمزيته ومعانيه بالنسبة لبعض أفراد الجيل العشريني الحالي في السعودية.