نقر أن (الدفء) حلّة نفيسة حينما تجتاحنا خيول (الصقيع)...
ويتناقص بحثنا عنه، وطلبنا للحلّة في بلاط (الزمهرير).. وصحراء (الهجير)..
ولأننا بين أحضان (البرد).. وفي وجه الصقيع، تكاثرت الطلبات على الدفء وامتد هدير البحث عنه.. حتى قالوا: لا تشتموا البرد وأنتم لم تستعدوا له الاستعداد اللائق به..!!
فأي استعداد يليق بالبرد، بالصقيع، حين يجبر شعر الجسد على الوقوف له انتصاباً، لا ندري أهو احتفاء بمجيئه.. أو خوفاً منه؛ صيّر الوقوف انتصاباً صلباً..
***
البرد يلسع جسدي..
أضرمي نار الموقد...
الصقيع يجمد قلبي...
أوقدي مدفأة الروح
(الشاعر: فوّاز حجو)
***
بين (نار الموقد) و(مدفأة الروح) في الشتاء القارص علاقة حميمة مع اختلاف كليهما.. نار الموقد محسوسة ترى والاقتراب الشديد منها احتراق يذيب المقترب.. ومدفأة الروح معنوية صوفية عند الغياب معها ينسى الجسد البرد اللاسع وينزاح الجليد عن القلب...
الشتاء طرق الأبواب كعادته في كل عام.. فهل ما يحتاجه الفرد هي فقط دفء المسكن، والملبس، والمكان، والفراش..؟
تم إعداد العدة له.. ومن ذلك حطب الموقد.. والمدفأة.. ثم ماذا بعد..!!
ماذا بعد حينما نقرأ من قصيدة لعبد الوهاب البياتي هذا المقطع..؟
وهجرتُ قريتنا، وأمي الأرض تحلم بالربيع
ومدافع الحرب الأخير، لم تزل تعوي، هناك
ككلاب صيدك لم تزل مولاي تعوي في الصقيع..
وكان عمري آنذاك..
عشرين عام
ومدافع الحرب الأخير لم تزل.. عشرين عام
مولاي.. تعوي في الصقيع
***
أيضاً عصا موسى في البرية ذات المحجن والشعبتين، من مآربه الأخرى فيها أن يدقها في الأرض ويلقي عليها ثوبه لينصبها مظلة تقيه حر الهجير.
إذا إعداد العدة لا تكون للشتاء فقط وموسى يدق عصاه وينصب ثوبه عليها يقي نفسه حر الهجير..
الكون يأت لنا بـ(الصقيع) مجيئه بـ(الهجير) والمكان أو الملبس والفراش وحدها لا تحمينا أو تقينا ما نخاف ونخشى.. ومما نخشى (الخريف).. فصل آخر ضمن فصول السنة..
وفصل آخر ضمن فصول العمر..
وفصل آخر ضمن فصول الحياة..
***
في رسالة لروائي (ماركيز) في الحياة نجد أن هم المبدعين متشابهاً, هو توهج الوجدان الإنساني لديهم والحنين للتحليق بالنفوس البشرية إلى ما وراء المعتاد.
ماركيز هل بهذه الرسالة كتب رسالته الأخيرة وهو على أبواب خريف العمر؟! وهل خريف عمره ساقط ورقه بعد أن جفّت؟!
أشك في ذلك وأنا أقرأ رسالته التي جاءت بعد ربيع العمر وصقيعه ثم هجيره حتى الخريف وقد جاء فيها:
(لو شاء الله أن ينسى إنني دمية من خرق وأن يهبني حفنة حياة أخرى، سوف أستغلها بكل قواي. ربما ما قلت كل ما أفكر فيه لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله.
وسأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نوم خسارة لستين ثانية من النور. وسوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام، لو شاء ربي أن يهبني حفنة حياة أخرى سأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على وجه الأرض عارياً ليس من جسدي وحسب بل من روحي أيضاً، وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.
للطفل سوف أعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده، وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي بسبب السنّ بل بفعل النسيان.
لقد تعلمت منكم كثيراً أيها البشر... تعلمت أن الجميع يريدون العيش في القمة غير مدركين أن سرّ السعادة في كيف نهبط من فوق. وتعلّمت أن المولود الجديد حيث يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف.
بل تعلمت منكم أكثر! لكن، قليلاً ما سيسعفني ذلك، فما أن أنهي توضيب معارفي سأكون على شفير الوداع.
قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه.
لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة أراكِ نائمة كنت آخذك في ذراعي وأصلي أن يجعلني الله حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها دقائقي الأخيرة معك لقلت (أحبك) ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك.
هناك بالطبع يوم آخر، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل خيراً، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير أحب أن أقول كم أحبك، وكما أنني لن أنساكِ. لأن الغد ليس مؤكداً لا للشباب ولا للكهل. ربما هذا آخر يوم نرى فيه من نحب. فلنتصرّف، لئلا نندم لأننا لم نبذل الجهد الكافي لنبتسم، لنحنّ، لنطبع قبلة، أو لأننا مشغولون عن قول كلمة فيها أمل.
احفظوا قربكم ممن يحبكم وتحبّون، قولوا لهم همساً إنكم في حاجة إليهم، أحبوهم واهتموا بهم، وخذوا الوقت الكافي كي تقولوا: نفهمكم، سامحونا، من فضلكم، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفونها.
لن يتذكر أحد أفكاركم المضمرة، فاطلبوا من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها وبرهنوا لأصدقائكم وأحبائكم محبتكم لهم).