السيولة النقدية في السوق السعودي لا تغطي ثلث قيمة ما اكتُتب به في اكتتاب الأهلي. ورؤوس أموال البنوك المشاركة ومخصصاصتها واحتياطيتها، لا تغطي حسابات المبالغ المكتتب بها. وتمويلات البنوك كلها (قصيرة الأجل وطويلها) مجتمعة لم تتجاوز في أي عام واحد، حاجز الـ150 مليار، فكيف تمكنت البنوك من الاكتتاب رسميا في اليوم الأخير بأكثر من مائتي مليار. وكيف تجمع لديها رسميا بنهاية الاكتتاب 311 مليار في محافظها الاكتتابية، أو هكذا ظننت بمنطق ما ينبغي أن يكون عليه النظام النقدي. ولذا فقد أخطأت في مقالي السابق « استعراض عضلات مؤسسة النقد في اكتتاب الأهلي». نعم، أخطأت فما كان لي أن أتخيل أن يمر ببرود ما حدث من اعتداء صارخ على النظام النقدي والبنكي، فهذا أمر خارج تماما عن المنطقية البنكية والسوقية.
فالودائع البنكية بآلاف المليارات ورأس مال البنك واحتياطيته، ليست مالا مُجمدا تنام عليها البنوك، بل يقابلها في معظمها تمويلاتها للغير، أو تستثمر في سندات، فهي ليست بسيولة نقدية. فالبنوك لا سيولة لديها تستطيع أن تقرض منها أو تدفع لمستحق وديعة إلا مما تبقى لها من سيولة وهي احتياطياتها النقدية غير الإلزامية، أو تقترض من السوق النقدية أو من مؤسسة النقد.
وهذه الاحتياطيات غير الإلزامية هي السوق النقدية من حيث السيولة المتوفرة، والتي كانت كلها بمجموع البنوك، لا تزيد في أعلى تقدير متحفظ عن 83 مليار في سبتمبر ( هذا إذا عوضنا في الكاش عن الاحتياطي الإلزامي وإلا فهي 50 مليار). أي 25 مليارفقط تقريبا تخص البنوك المساهمة.
وما عدا ذلك، فما يمكن تحويله إلى سيوله من أذونات مؤسسة النقد ونحوها، والتي تقابل في غالبها رأس مال البنوك وأرباحها واحتياطيتها بما فيها المخصصات، فهذا لا يكون إلا بإشراف مؤسسة النقد وموافقتها وسياستها في طريقة امتصاص هذا التسييل النقدي وتعقيمه من السوق النقدية. فضلا عما فيه من مخالفة صريحة للنظام الأساسي للبنوك المعتمد بأمر ملكي. و هي فوق ذلك كله، تدور حول125 مليار تقريبا مما يخص البنوك المساهمة في الاكتتاب.
فكيف حدث الذي حدث؟
الذي حدث هو أن البنوك قامت بتوثيق إقراض رسمي لتمويلات لأفراد على شكل تسهيلات تمكنهم من المحاصصة والمنافسة للحصول على نصيب أكبر في تخصيص اكتتاب الأهلي الذي قدمته الدولة بأسعار مخفضة للمواطنين. وهذا لا إشكال عندي فيه، فهو وإن كان إجراء فيه مخالفة قوية لمجموعة من تعليمات مؤسسة النقد، إلا أنه في مثل هذه الحالات، فإن البنك يقدر قيمة عقوبة المخالفة ثم يحسب الخسارة والربح، ثم يتخذ القرار الإداري المناسب بفعل المخالفة ودفع العقوبة إن كان الربح أعلى من الخسارة.
ولكن الإشكال عندي وعند كل من له معرفة بالنظام البنكي هو: في الاعتداء الصارخ على عماد أصل فكرة السيولة البنكية ومنع انكشاف البنوك والتي هي أصل النظام الأساسي البنكي. فهذا الاعتداء وإن كانت تبعياته لا يمكن أن تتحقق، إلا أنه تطبيقيا قد وقع وتم تثبيته قانونيا حقيقة لا صورة، فلا اعتبارية لكون مخاطره غير محتملة الوقوع نظريا.
فكل بنك مساهم في الاكتتاب له حساب خاص يودع فيه أموال المكتتبين، ويرسل طلبات الاكتتاب لمدير الاكتتاب دون إرسال المبالغ المكتتب بها إلا بعد التخصيص. وهذا يقصر المسئولية المباشرة على البنوك المشاركة دون مدير الاكتتاب، وإن كان النظام ينص على إرسالها فهذا يدخله معهم في المسئولية. وأما المسئولية غير المباشرة، فهي شاملة لكل أفراد السوق وهيئاته ومنظماته وإعلامه، لتجاهلهم قيمة هذه المبالغ، بل والأدهي هو الدندنة بها كنوع من الفخر بالسوق المالية السعودية، بدلا من المحاسبة ومنع تبعياتها.
فالقصة هي أن البنوك كانت تمول التسهيلات بعقود قانونية حقيقية بينها وبين الزبون، ثم تكتتب بهذه المبالغ ولكن دون أي إيداع للأموال في الحساب الخاص بالاكتتاب، ودون وجود أي سيولة لديها تغطي هذه الحسابات المكشوف قانونيا وحقيقة. والأدهى من ذلك، أن هذه السيولة لا يتوفر ولا حتى نصفها في السوق النقدية السعودية كلها. أضف إلى ذلك أنها أصبحت 311 مليار بنهاية اليوم الاخير للاكتتاب. بل والأدهى من ذلك كله، فإن هذه الحسابات المكشوفة في البنوك المشاركة، لا تستطيع البنوك تغطيتها حتى باستخدام كل ما تملكه من شبه السيولة كأذونات مؤسسة النقد، والتي سبق وان نبهت انه يقابل رؤوس أموالها واحتياطياتها، والتي لا يمكن أن تسييلها عادة إلا بعملية إنقاذ بنكية توافق فيها مؤسسة النقد وتنسق لها لتعقمها فلا تتضاعف القاعدة النقدية.
وهذا خرق قاتل صريح لأصل النظام البنكي، فضلا عن تلاعبه في نتيجة التخصيص. فتطبيقيا من الناحية القانونية البنكية، فإن البنوك المشاركة قد انكشفت أياما لمبالغ أكبر مما تملكه من احتياطيات سيولة نقدية وشبه نقدية. وإعلان البنوك للإفلاس والعجز عن توفير هذه السيولة وإن كان غير محتمل الوقوع، لكون قيمة اكتتاب الأفراد كله لا تتجاوز 13. مليار، إلا أن الانكشاف البنكي لحسابات الاكتتاب غير المغطاة قد تم حقيقة. وبسبب هذه الحسابات، فقد تحقق فعليا تبعياتها من المُحاصصة في نتائج التخصيص. فحرم مساهمين بأموالهم من تخصيص أكبر كما فاز آخرون بأسهم خُصصت بأموال معدومة لا وجود لها في السوق النقدية كلها. (وللعلم فأنا لم أكتتب إلا بشبه الحد الأدنى، لتحلة القسم عن دفاعي عن الاكتتاب. وهو أكثر ما أطيقه ماليا، فحالي كحال البنك في عجز السيولة ولكن البنك استطاع الاكتتاب لعملائه بحسابات مكشوفة وهو بنك لا يجوز له مطلقا كشف حساباته إلا لساعة من نهار في حالات غير مطبقة عندنا، بينما لم أستطع أنا أن أكتتب لأولادي لعدم سماح البنك لي بكشف حسابي عنده وأنا مجرد عميل، فكيف يسمح لنفسه وهو بنك لا فرد بكشف حسابه عند مؤسسة النقد بأرقام فلكية، وكيف تجرأ على ذلك).
وإن كان انكشاف حساب البقالة والشركة أمر ثانوي في حالة الاتفاق مع البنك ، فهو أمر طبيعي غالبا لإمكانية تغطيته عادة، فإن البنوك ليست بقالات، وكذلك لم تسمح لها المؤسسة بكشف حسابها ولو لساعة من نهار (كما يسمح خلال النهار لبعض بنوك أمريكا الكبيرة).
فانكشاف حساب البنك رسميا بهذا الشكل والإخلال بقوة باحتياطيات الوفاء بالتزاماته هو أمر مصيري يقوم عليه أصل نظام البنوك.
فيا ترى ما هي حكاية سوقنا النقدية والمالية. فمن المتكاملة لموبايلي لغيرها، والأحداث تمر دون سماع أحكام بالسجن والتشهير وتوعية السوق بما حصل. ومعرفة ما حصل وما يحصل هو أصلا حق غاصب للسوق. فبالأمس رفض بنك الوفاء بضمان بنكي غير مشروط، بحجج كحجج انكشاف البنوك اليوم التي انكشفت لا لتحقيق أرباح لها، بل لمجرد فلتة مزاجية بنكية تبعتها تغيرات في استحقاقات تخصيص الاكتتاب.
فما أدرانا كيف كانت الحال في طفرة الأسهم، بل لعلها كانت كذلك ، فهذا يشرح تلك المبالغ الضخمة التي كان يُتداول بها، والتي أسهمت البنوك بتسهيلاتها. فقد تكون هي أيضا من خلال حسابات مكشوفة لتسهيل التلاعب بالسوق؟ فما حدث من ضخامة المبالغ في اكتتاب الأهلي بدون فائدة ربحية تذكر للبنوك، لا يحكي تلاعبا أو مخادعة، فالمتلاعب والمخادع لا يتلاعب بأضعاف الموجود. فما حدث هو جهل شديد وعادة اعتيد عليها، فأصبحت عرفا. ولهذا لم يلفت مبلغ 311 مليارا، انتباه السوق المالية والنقدية. وبما أن العوائل السعودية ما زالت تشتكي من آثار فقاعة الأسهم إلى اليوم ، فقد أصبح لزاما علي أن أبحث احتمالية تورط البنوك بحسابات مكشوفة في فقاعة الأسهم، وفتح هذا الباب ليس بالأمر العسير.
إن ائتمانية البنك سواء ليست محل تلاعب ولا تجاوز لا صوريا ولا حقيقيا. فعلى هذه الثقة تعتمد البنوك والسوق عالميا ومحليا في معاملاتها المحلية والدولية. ولهذا تعقد مؤتمرات سويسرا و تفرض الأنظمة العالمية التي تلتزم بها الدول لتحقيق استمرارية اعتباريتها في السوق الإئتمانية عالميا. فدور النظام النقدي في الاقتصاد كدور القلب في الجسم، فخطأ بسيط تصيبه في مقتل، فكم من مقتل حصل. فلولا اعتبارية قوة النفط لما قبل بنك عالمي ضمانات بنوكنا في تصدير أو استيراد أو تحويل. ولولا إهمالنا لفهم أمورنا لاعتمادنا على المستشار الأجنبي، لما صرنا في هذه الحال. فيا للنفط والمستشار الأجنبي، كم فيهما من خير وشر، فإلى متى نتخدر تحت وصايتهما، ومتى نصحو فنجعلهما تحت وصايتنا ؟
وما زال في الجعبة حديث مسكوت عنه، فإلى لقاء الخميس القادم.