لقد أمرنا الله بالأكل والشرب لأن الجسم البشري لا يقوى على العمل إلا بهذه الطاقة التي تحركه، كما يحرك الوقود لسائر المحركات أجزاءها للعمل، فالوقود وما فيه من طاقة مهما كان نوعه، بمثابة الطعام والشراب للإنسان، إلا أن الطعام والشراب، فيه نماء للجسم، وتفاعل باطني في خلاياه وأنسجته
ليزداد بذلك قدرة وحيوية على سائر النشاطات التي يزاولها هذا الجسم: بدنياً وذهنياً، ولذا كانت حيوية هذا الجسم في الاعتدال وحسن الاختيار من الطعام والشراب، وهذه هي الطيبات التي أباح الله لعباده كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
فالأكل والشرب لهما مهمة في بناء الجسم، وزيادة القدرة الإنتاجية فيه، ولكن بمقادير ملائمة، حيث جاء في الأثر: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع.. لأن مبدأ ديننا الحنيف: الوسط في كل شيء: ومثلنا العامي المستقى من تجربة، يقول: العافية في أطراف الجوع.. لأن أكثر من يزور عيادات الأطباء هم الذين يملأون بطونهم، ويتعبون أجهزتهم الهضمية، فالمعدة كما قال طبيب العرب: الحارث بن كلدة: بيت الداء، والحمية رأس الدواء..
والإنسان إذا شعر بجوع حقيقي، فإن مرأى الطعام أو رائحته، أو حتى مجرد التفكير فيه، كاف ليثير الغدد اللعابية في الفم، لتبدأ عملها. وكل إنسان يعرف هذه الظاهرة في نفسه. عندما يحس أن فمه قد امتلأ لعابا، بمرأى طعام شهي، منظراً أو رائحة، ويتوقع أن الطعام له أثر مماثل على الغدد العديدة التي تبطن المعدة، وتفرز عصاراتها الهاضمة.
ومن هنا، فإن الخاصية التي جعلها الله في الأجزاء الداخلية من جسم الإنسان، ويعرفها الأطباء كجزء من دراساتهم عن تفاعلات الجسم البشري، وأجزائه الدقيقة: إن كل فرد إذا أكل، وهو يشعر بالجوع، وكان الطعام شهياً، فإن الجهاز الهضمي عنده يفرز كميات كبيرة من العصارات اللازمة لهضم الطعام.. أما إذا تناول وجبة دون أن يشعر بالجوع، فإن مرأى الطعام أو رائحته لا تثيران هذا الإفراز الغزير للعصارات الهاضمية.. وبذلك لا يتم هضم الطعام بنفس الكفاءة ومن الأشياء السائدة لدى الناس قولهم: إن أول عمليات الهضم تتم في الفم.. والأطباء يرون ذلك حقاً، حيث يوصون بمضغ الطعام جيداً. أو على أقل تقدير ترطيبه باللعاب قبل البلع. وما ذلك إلا أن الله جلت قدرته قد خص اللعاب بمادة تسمى (يتيالين). وهذا جزء من الأسرار العجيبة التي سلكتها قدرة الباري سبحانه في أجسامنا، لحكمة بالغة، ونحن عنها غافلون، وهذه المادة يقول عنها المخبريون بأنها خميرة تحلل النشا الموجود في الطعام، وتحوله إلى مادة سكرية تسمى (ملتوز)، وهذه أدنى مراحل هضم النشاء، وهي لا تتم كما ينبغي ما لم يختلط اللعاب بالطعام تماماً.. ثم تأتي المرحلة الثانية وهي عمل العصارات في المعدة، وفي الأمعاء بطريقة أفضل، إذا ما تلقت أجزاء صغيرة، حيث تهضمها بكفاءة جيدة، أكبر مما تفعل بكتلة كبيرة.. فسبحان من أعطى كل شيء حكمة وهداه إلى عمله..
والجسم لكي ينمو، فإنه يحتاج إلى كميات كافية من البروتين، الذي تتوافر جزيئاته في كثير من الأطعمة، الواجب توافرها للأطفال، حيث يحتاجون للنمو وبناء الأجسام، يقول مؤلفو موسوعة المعرفة: النمو: كلما شب الأطفال في اتجاه البلوغ تصبح عظامهم أطول وأغلظ، وعضلاتهم أكبر وأقوى، وبالتدريج يصبح كل عضو في أجسامهم تقريبا أكبر، وهذه الزيادة في الحجم تسمى النمو ويتم الحصول على المواد اللازمة للنمو من الطعام الذي تأكله، ولهذا السبب فمن الضرورة القصوى أن يحتوي طعام الأطفال على كميات كافية من الأطعمة، التي تبني الجسم، من البروتينات والأملاح، وهناك احتياج إلى الفيتامينات أيضاً،لأنه بدونها لا يمكن استعمال الأطعمة التي تبنى الجسم استعمالاً سليماً .
ومن رحمة الله بعباده، أن هيأ لهم من الأطعمة ما يتلاءم مع متطلبات أجسامهم، وسلك في هذه الأطعمة المتوفرة في كل بيئة ومجتمع في أنحاء المعمور من وجه الأرض، ما يوفر النمو للجسم البشري: من نبات أو حيوان أو طير أو سمك.. أو غير ذلك مما يدب أو ينمو على وجه الأرض من الطيبات، وجعل سبحانه وتعالى الحصول عليه سهلاً ميسراً، يستطيع كل فرد مهما كان دخله أن يجد منه ما يكفي جسمه، ليسير في طريق النمو الذي أراده الله ملائماً لعمره.
وجعل الله جلت قدرته في الجسم فطرة خفية، وميلاً غريزياً، لينجذب إلى النوع المطلوب لنمو الجسم وحاجته، حسبما يتوافر في الغذاء الذي تميل النفس إليه. كما اقتضت حكمة الله البالغة أن يكون مطلب الجسم من: بروتين أو فيتامين أو معادن.. ليست وقفاً على نوع واحد من الأطعمة، فيصبح مطلبها صعباً إلا لفئة من البشر، بل كانت كل متطلبات إصلاح هذا الجسم متوفراً كل نوع منها في أكثر من مئات المسميات مما يؤكل أو يشرب، والتي تنمو في أي بيئة جغرافية على وجه الأرض صيفاً وشتاء، جفافاً ورطوبة، براً وبحراً.
وهذه من نعم الله الجليلة التي تستوجب الشكر لمن أوجدها، والاعتراف له بالوحدانية والفضل: وهي داخلة في عموم الحديث القدسي: (ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب، وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب).
والطفل الذي يقول الأطباء إنه يتعرض لأمراض عديدة: أهمها مرض الطفولة أو (الطفل المحروم) الذي ينتج بعد الفطام: يقول الأطباء: إنه نتيجة لتناول غذاء يحتوي على أقل القليل من الأطعمة التي تبني الجسم، ويحتاج إليها الطفل، من البروتين، إما نتيجة لفقر الأسرة، أو جهل الأم في تزويد طفلها بالكفاية اللازمة لإصلاح جسمه، حيث يرى المختصون أن كمية البروتين التي يحتاجها طفل في الرابعة عشرة من عمره، تبلغ كل يوم حوالي 90 جراماً (أو ثلاث أوقيات). وإذا استعملت كل هذه الكمية لتكوين أنسجة جديدة، فإن السرعة التي يمكن أن ينمو بها الطفل، تكون أكبر مما هي فعلا، ولحسن الحظ فإن لطف الله الخفي، وحكمته البالغة، اقتضت أن الأطفال يزيدون في الوزن بسرعة أبطأ بكثير من ثلاث أوقيات في اليوم، وذلك لأن معظم ما يتم تناوله من البروتين في اليوم، يستعمل ـ لا للنمو ـ وإنما لعمليات الإصلاح للجسم كله، فالأنسجة والخلايا ـ مثل الماكينات ـ لا تعمر إلى الأبد، بل تستبدل في أجسامنا، وترمم كما يرمم البيت من أي طارئ يمر به.. ولذا فإن الجسم يحتاج للبروتين طول الوقت، ليحل محل المكونات التي أصبحت (جد عجوز) ولا يمكن استعمالها .
فسبحان من قدر ذلك، وسبحان من كلأنا برحمته وعنايته، وسبحان من هيأ في أجسامنا هذا الدور الفعال، من حركة دائبة، وعمل منتظم، وجهود متوالية.. فإن ذلك مما يدعو للتأمل والاعتبار، ويستوجب الشكر والعرفان، وهو جزء مما في نفوسنا من أسرار وعبر، يحتاج أن يتمعن فيها العاقل، ويتبصر فيها المسترشد، ليقوى إيمانه، وتتمكن العقيدة في نفسه، وليقول بلسان الحال، ومنطوق المقال: سبحانك يارب ما خلقت هذا باطلا، فلك الحمد على ما أوليت، ولك الشكر على ما أعطيت، فتجاوز عن تقصيرنا، واعف عن هفواتنا.