آن ماري سلوتر:
واشنطن - يبدو أن الولايات المتحدة تواجه وفرة من تحديات الأمن الوطني، من ظهور تنظيم داعش إلى التوسع الروسي وصعود الصين.. ولكن كما يشير تقرير حديث بعنوان «العمل المجزي، لا تزال الأجور غير كافية لتغطية تكاليف المعيشة»، فإن لا شيء يفرض على مستقبل أميركا تهديداً أكثر قوة من الفشل في توفير الرعاية الكافية والتعليم للأطفال دون سن الخامسة.
إذا لم يحصل الأطفال على رعاية عالية الجودة من مهنيين متعلمين يفهمون كيف يحفزون ويشكّلون نمو الدماغ، فإن أفراد الجيل القادم من الأميركيين سوف يعانون من فجوة إنجاز متزايدة الاتساع مقارنة بأقرانهم في البلدان المتقدمة الأخرى والبلدان الناشئة المنافِسة.. ومع هذا فإن الأميركيين يدفعون لهؤلاء المهنيين المحترفين نفس الأجور التي تُدفَع لأولئك الذين يوقفون سياراتنا، أو ينزهون كلابنا، أو يعدون لنا شطائر البرجر أو المشروبات.. والمغزى الضمني هنا واضح: فالأطفال الأميركيون لا يحتاجون إلى قدر من الاهتمام أكبر من ذلك الذي تحظى به الحيوانات أو الجماد.
وإنه لخطأ جسيم. ذلك أن رعاية الطفولة المبكرة من الممكن أن تشكّل قدرة الإنسان على التعلم، ومرونته العاطفية، وثقته في ذاته، واستقلاله طيلة حياته.. والواقع أن توفير رعاية عالية الجودة تعمل على إشراك الأطفال وإرشادهم في السنوات الخمس الأولى من حياتهم ويؤثر على تطورهم ونموهم بدرجة أعظم من أي تدخل آخر على مدى حياتهم.
وهذه ليست معلومات جديدة.. فكتاب «الخلايا العصبية إلى الأحياء السكنية: علم تنمية الطفولة المبكرة»، والذي نُشِر قبل أكثر من عشر سنوات من قِبَل الأكاديمية الوطنية للعلوم، يبدأ بالاعتراف بأن وتيرة التطور منذ الحمل وحتى اليوم الأول في رياض الأطفال «تتجاوز مثيلاتها في أي مرحلة لاحقة من الحياة.. ويتشكّل هذا التطور بفِعل تفاعل ديناميكي ومستمر بين الأيديولوجية والخبرة».
والآن تستمد هذه الملاحظة الدعم من علم الأعصاب، الذي حدد كيف يتطور الدماغ خلال تلك الفترة وأنشأ نظاماً لقياس فجوات التعلم.. وقد أكَّدت مثل هذه البحوث على أن بناء الدماغ لا يقل أهمية عن تغذية الجسد لإنتاج بالغين أصحاء وأذكياء ومنتجين وقادرين على الصمود في مواجهة المصاعب.
وقد سجلت دراسة حديثة نتائج مشروع كارولينا الهجائي، التجربة الاجتماعية التي أجريت في ولاية نورث كارولينا والتي بدأت في سبعينيات القرن العشرين.. قارنت هذه الدراسة بين مجموعتين من الأطفال المحرومين، حيث حصل أفراد إحداهما على تغذية ممتازة ورعاية عالية الجودة وتحفيزية لمدة ثماني ساعات يومياً من الميلاد إلى سن الخامسة، في حين تلقت المجموعة الأخرى تغذية عادية ورعاية عادية.. وبعد أربعة عقود، لم يكن البالغون المنتمون إلى المجموعة التي تلقت رعاية أوفر صحة من الناحية البدنية فحسب؛ بل كانوا أكثر قدرة من المنتمين إلى المجموعة الثانية على الحصول على شهادة جامعية.
ومن الواضح أن رعاية الطفولة المبكرة أوسع كثيراً من مجرد التخطيط لتوقيت تناول العصائر والكعك، والإشراف على فترات القيلولة، واصطحاب الأطفال إلى ساحات اللعب.. ووفقاً لميجان جانر، التي تخصصت في تقاطع علم نفس النمو مع علم الأعصاب، فإن المشرف على تقديم رعاية الطفولة المبكرة الجيدة «يحتاج إلى القدرة على تحليل ما يحدث في اللحظة الآنية» وتحديد المفاهيم التي يستطيع الطفل أن يتعلمها - سواء كانت مفاهيم عددية، أو مفاهيم متعلقة باللغة أو الفيزياء.. والاستجابة «في اللحظة الآنية بشكل ديناميكي تتطلب حقاً المهارات التحليلية، والوظيفة التنفيذية، والترتيب والتسلسل، ومعرفة الكثير من المعلومات».
ومن المؤسف في حالة أطفال أميركا أن الدوائر العالية الأداء في قشرة الفص الجبهي في دماغ مقدم الرعاية والتي تحتاج إليها هذه المهارات تتأثر بالإجهاد بشكل مباشر.. وفي الولايات المتحدة، تعاني الغالبية العظمى من العاملين في مجال رعاية الطفولة المبكرة من ضغوط اقتصادية هائلة. في عام 2012، كان نصف كل أسر العاملين في مجال رعاية الطفولة تقريباً يتلقون نوعاً من الدعم العام الفيدرالي، من بطاقات الغذاء إلى التأمين الصحي للأطفال.
ومثل هذه الضغوط الاقتصادية لا تتناقص مع التعليم.. فالمعلم الذكر المشارك في قوة العمل المدنية ويحمل درجة البكالوريوس أو أعلى منها في عام 2012، كان متوسط راتبه السنوي 88 ألف دولار أميركي.. أما معلم مرحلة الطفولة المبكرة الذي يحمل نفس المؤهلات فكان متوسط راتبه السنوي نحو 27 ألف دولار.
والاستثناء الوحيد هو المؤسسة العسكرية الأميركية، التي تدفع للمعلمين وفقاً لنفس النظام المعمول به مع غيرهم من موظفي وزارة الدفاع، استناداً إلى معايير مثل التدريب والتعليم والأقدمية والخبرات.. بعبارة أخرى، تُدرك الشريحة من حكومة الولايات المتحدة المسؤولة بشكل مباشر عن حماية الأمن القومي الحاجة إلى اجتذاب عاملين من ذوي التعليم العالي لتقديم الرعاية والتعلم المبكر لأطفال كل الموظفين.. تُرى هل يرجع هذا إلى أن القادة العسكريين والمدنيين في مؤسسة الدفاع الأميركية عاينوا بشكل مباشر تكاليف توقف النمو الفكري، وفرط النشاط، والافتقار إلى السيطرة على الانفعالات؟
لكي يتسنى للولايات المتحدة - أو أي دولة - أن تنافس في الاقتصاد العالمي الرقمي، فهي تحتاج إلى قوة عمل مقتدرة وجيدة التعليم ومبدعة وموفورة الصحة.. وتبدأ تنمية قوة العمل هذه عند الولادة. إن أي شخص يستطيع أن يغير حفاضاً، ولكن ليس كل شخص قد يتمكن من المشاركة والتحفيز والاستجابة لرضيع أو طفل صغير على النحو الذي يساعد في بناء الخلايا العصبية، ناهيك عن نقل المهارات المعايرة وفقاً لمرحلة النمو في حياة الطفل.
إن الولايات المتحدة تتمتع بالقطاع التكنولوجي الأكثر ديناميكية في العالم - خصوصاً أنها تقدم الرواتب العالية اللازمة لاجتذاب أفضل المواهب.. والواقع أننا لا نحصل إلا على ما ندفع في مقابله، غير أن ما يدفعه الأميركيون أقل كثيراً من أن يسمح بازدهار أطفالهم.
آن ماري سلوتر - رئيسة مؤسسة أميركا الجديدة ومديرتها التنفيذية، ومؤلفة كتاب «الفكرة التي هي أميركا: كيف نحتفظ بإيماننا بقيمنا في عالم خَطِر».
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2014.