حينما نقرأ تصريحاً لوزير الخدمة المدنية بأن هناك 4038 موظفاً وموظفة في مناصب قيادية هم في سن السادسة والخمسين، بمعنى أن تقاعدهم النظامي سيكون بعد أربع سنوات، مما يعني ترك فراغاً قيادياً في هذا المناصب، كل هذا صحيح وطبيعي، لكن أن تسعى الوزارة إلى استقطاب الكفاءات المناسبة لمثل هذه الوظائف القيادية، فهذا أمر فيه نظر، قد أتفهم تطوير الكفاءات، لكن استقطابها، وفي ظل مزايا العمل الحكومي المعروفة، سيكون أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.. هل يمكن أن يتنازل موظف القطاع الخاص، عن وظيفة قيادية لا يقل مرتبها عن 70 ألفاً، ليعمل على وظيفية قيادية حكومية، ويخسر ما يقارب ثلاثة أرباع مرتبه؟ هذا أمر غير منطقي!
لذلك فإن التحدي الحقيقي الذي تواجهه وزارة الخدمة المدنية هو استبقاء القيادات الكفؤة في قطاعات الدولة، وعدم تسربها إلى القطاع الخاص تحت وطأة المغريات الوظيفية، وكذلك تطوير هذه القيادات وتدريبها المستمر، والأهم من كل ذلك، وهو ما تعانيه بعض وزارات الدولة، تجهيز الصف الثاني من القيادات، فقليل من القيادات الإدارية في العمل الحكومي تُعنى بحالة القطاع الحكومي وتطوره بعد تقاعده، بأن تقوم بتجهيز موظف يحل محلها، وتمنحه السلطة والمسؤولية تدريجياً، بل قد يحرص أحياناً على عدم منحها الفرصة، لفهم آلية العمل، كي يتضعضع الجهاز من بعد تقاعده، ليدرك الآخرون أهميته والخسارة التي تكبدها العمل بتقاعده، وخاصة لدى ممن تعليمهم دون التعليم الجامعي، وهم يشكلون ما يقارب 25% من القيادات!
ولعلنا ندرك جميعاً، أن من أبرز عوائق التنمية في بلادنا، في ظل ثرواتها المتنامية، هي الإدارة فحسب، فحين تتوفر الكفاءات الإدارية القيادية، ويتم منحها كافة الصلاحيات والمسؤوليات، التي من شأنها إنجاز العمل وتطويره، سنجد أن كثيراً من قطاعات الدولة تسجل مستويات أعلى في الإنجاز!
ومن المعروف أن الأنظمة المعمول بها لا تمنح القياديين في هذه القطاعات الحق في اتخاذ قرارات مناسبة وحازمة بشأن الموظفين الذين يمارسون سلوكاً منافياً لشرف الوظيفة، كالفساد المالي والاختلاس والرشوة وإهدار المال العام، والإهمال في أداء العمل، وعدم الانضباط، واستغلال الوظيفة في غير صالح العمل، وغيرها من السلوكيات السلبية.
ليس هناك عقوبات يمتلك القيادي إيقاعها على الموظف المخل بالعمل، لكنه يملك حرمانه من المزايا التي قد يتمتع بها زملاؤه، وهذا غير كاف لضبط العمل ورفع مستوى الإنجاز، فهذا الحرمان من الترقيات والبدلات يجعل الموظف المهمل خارج حسابات القيادي، رغم أنه يستلم مرتبه في نهاية الشهر، وهذا الأمر تحديداً هو ما خلق «البطالة المقنّعة» في القطاعات الحكومية، وأيضاً أسهم في التأثير سلباً على باقي الموظفين الأكثر انضباطاً، خاصة في الجهات التي لا تملك منح المزايا والبدلات!
إذا كنا نتفق في أن ما نعاني منه من سوء خدمات، وبيروقراطية حكومية، سببها إداري محض، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فإن الجانب الإداري لن يتطور ما لم نقم بمراجعة الأنظمة وتطويرها، أي أنه حتى لو تمكنت وزارة الخدمة من توفير القيادات المتميزة، عبر الاستبقاء والاستقطاب والتطوير لها، لن تستطيع هذه القيادات، من تنفيذ برامجها وخططها بلا صلاحيات من شأنها ضبط العمل وانسيابه.