تعاودني ذكراك كل عشية
ويورق فكر حين فيك أفكرُ..
وتأبى جراحي أن تضم شفاهها
كأن جراح الحب لا تتخثرُ
ما أن حلت الذكرى الأولى لرحيل المفكر التربوي محمد أحمد الرشيد وزير التربية الأسبق -رحمه الله- حتى تسابقت أقلام الأوفياء تذكر الناس بسيرته العطرة وحسن خلقه وأدبه وعطائه فهو من القدوات البارزة في عصره وهو من المخلصين لأوطانهم وأمتهم.
والمخلصون لا يموتون، لأن ثمرات أعمالهم تبقى خالدة تحدث الأجيال المتعاقبة من بعدهم جيلاً بعد جيل، فهم لا يعيشون لأنفسهم، وإنما يعيشون للآخرين، يسخرون فكرهم وجهدهم إن كانوا من المفكرين، ومناصبهم وجاههم إن كانوا من المسؤولين، وأموالهم إن كانوا من أرباب المال أو الأعمال لخدمة الرسالة التي جندوا أنفسهم لها. ولهذا فإن المخلص إذا ترك المنصب أو تركه المنصب أو نفد ماله وزال جاهه لا ينفض الناس عنه بل يستمرون في الوفاء له والبقاء من حوله إلا أن هذا النوع من المخلصين قلة لكن الواحد منهم بألف من هؤلاء.
البحث عن سرور الجنة:
ومحمد أحمد الرشيد واحد من هؤلاء القلة من المخلصين، فقد حباه الله بالألقاب فخلعها عن نفسه، ولم يتزين بها. رفض أن يسبق أسمه حرف الدال، ورفض لقب دكتور الذي اشتراه آخرون بالمال ليتباهوا به على الناس. وجاءته المناصب دون أن يسعى لها فلم يتخذها عزة ورفعة لنفسه بل خدم من خلالها وطنه وشعبه. فتح باب مكتبه وباب بيته لكل صاحب حاجة، فلم يرد أحداً في مسألة يستطيع قضاءها له بجاهه أو بماله.
كان يقول أن أسهل الحاجات مهما صعبت تلك التي تُقضى بالمال فإن لم تكن بالمال فبالجاه، فلا قيمة لمال ولا فائدة من جاه إن لم يُستعان بهما في تفريج الكُربات وفك الإعسار وفي إدخال السرور الى قلوب الناس، وكان شعاره في هذا الشأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ادخل سروراً الى قلب مؤمن لم يرض الله له سروراً دون الجنة).
وحسب محمد أحمد الرشيد أن يشهد له رجال عصره بالمناقب والسجايا التي عُرف بها، وأحبه الناس بسببها ويأتي في مقدمتها حُسن خُلقه، وحبه للناس وإحسانه للمسيء وتسامحه الذي يُضرب به المثل. والحقيقة أن شخصية محمد أحمد الرشيد ليست إلا ترجمة حية لعلمه، فهو -رحمه الله- من أشد المؤمنين بأن صاحب العلم والفكر إذا لم يرتفع بخلقه وسلوكه ومعاملاته إلى مستوى فكره وعلمه لا فائدة من علمه وفكره، فصانع الفكرة بالقدوة أفضل عند الله ثم عند الناس من صاحب الفكرة المجردة التي لا يرى الناس ترجمتها في شخصه.
وفي رأيي أن هذا هو سر محبة الناس لمحمد أحمد الرشيد وسر حزنهم الشديد على فقده، فقد أحدثت وفاته هزة في كل أوساط المجتمع السعودي وليس في الوسط التربوي والثقافي وحدهما وذلك لما لشخصه من قبول وتقدير عند أكثر الناس. والحقيقة الأخرى أنه حتى الذين ناصبوه العداء في حياته أو اختلفوا معه أصابتهم هذه الهزة فأحسوا بفداحة خسارته وتذكروا مناقبه وذكروه بكلمات طيبة وأنصفوه بشهادة حق والإنصاف حق الميت على الحي فالموت يُسقط الخصومات ويُبقي المكرمات.
لقد فاجأ محمد أحمد الرشيد الناس بموته مثلما كان يُفاجئهم بأفكاره ورياداته وإبداعاته، ولكن الحزن الذي سكن قلوب الناس عليه لم يكن بسبب المفاجأة، وإنما كان حزنا على غياب هذه الطاقة المتجددة بالعطاء، فلم يكن محمد أحمد الرشيد من ذلك النوع من الرجال الذين يتوقفون عن العطاء بعد خروجهم من المناصب، بل كان أكثر عطاء وتألقاً بعد أن ترك المناصب والارتباطات الرسمية.
استمر محمد أحمد الرشيد يخدم المجتمع ويخدم الناس ويخدم الفكر التربوي ويخدم الوطن كله بشخصه وعلمه وعلاقاته وبقلمه وبفكره، فكانت أيامه كلها مليئة مزدحمة فهو أما قارئاً أو كاتباً أو مستقبلاً فرداً أو أفراد في منزله أو مكتبه، أو مجتمعاً بشأن أمر فيه خدمة دولته ووطنه، على أن أهم ثلاثة معالم يتصل من خلالها بالناس في حياته أولها كان مقاله الأسبوعي الذي واظب على نشره كل ثلاثاء في صحيفة الرياض وثانيها ندوته التي تنعقد كل يوم سبت في منزله التي استمرت إلى يوم وفاته حيث توفي رحمه الله بعد حوالي ساعة من وداعه رواد ندوته تلك الليلة مساء السبت 20-1-1435هـ الموافق 23-11-2013م، وثالثها كانت تغريدته الأخيرة التي أطلقها على توتير في الليلة نفسها فكانت حديث الناس تلك الليلة الحزينة.
دروس في حب المساكين:
ولقد رأينا بعد رحيله أناساً من البسطاء والفقراء والمساكين المستورين يبكونه بمرارة مَن فقد عزيزاً، فلما سألت قيل لي أن هؤلاء من أصحابه الذين لا يعرف عنهم أحد شيئاً حتى أهله وولده. وقد ربطت هذا بدعاء نصحني به ذات مرة عقب صلاة صليتها معه، قال لي ردد هذا الدعاء واعمل به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» اللهم أحييني مسكيناً وتوفني مسكيناً، واحشرني مع المساكين». فكان الحديث بيني وبينه أثناء المسافة القصيرة التي مشيناها من المسجد إلى بيته عن عظمة حب المساكين ومكانة من يحبهم عند ربه فسمعت منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً لأحد الصحابة: «أحب المساكين وجالسهم وانظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك». وقد أوصى أمنا عائشة رضي الله عنها فقال لها: «يا عائشة أحبِّي المساكين، وقرّبيهم، فإن اللَّه يقربك يوم القيامة». ولهذا كان رحمه الله يقدم قضاء حوائج البسطاء قبل الكبراء والمجهولين قبل المعروفين. وقبل وفاته بحوالي شهرين كنت معه يوم 23-11-1434هـ الموافق 29-9-2013م في زيارة لبلدة المجمعة مسقط رأسه مع جمع من أصحابه فرأيته يبتعد عن السرب المحيط به لحظات، وينفرد برجل لا نعرفه من أهل المجمعة، وقد فهمت مما وصلني من كلام عن بُعد أنه كان يحدثه في حاجات لأناس هناك ثم عاد وجلس معنا مسروراً يطفح من وجهه البشر، فقلت في نفسي هذه سعادته وفرحته بإدخال السرور إلى قلوب الناس.. وقد تذكرت فعله هذا عندما مر بي هذا الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «رأيت قوماً من أمتي على منابر من نور يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، نورهم تشخص منه الأبصار، لا هم بالأنبياء ولا هم بالصديقين ولا هم بالشهداء، إنهم قوم تُقضى على أيديهم حوائج الناس». أسأل الله أن يجعله منهم ويحشره في زمرتهم.
أما سجل الإنجازات التي حققها في عشر سنوات أمضاها وزيراً للتربية والتعليم فسيذكرها له التاريخ التربوي والتعليمي في المملكة العربية السعودية، وكانت له من الريادات ما أثار الجدل حوله والخصومة معه بل والعداء له، فلم يبال بذلك كله مؤمناً أن من لا يعمل هو الذي يعيش في هدوء ولا يثير جدلاً.
كان محمد أحمد الرشيد يؤمن أن الجدل إذا أُريد به الخير يفرز حواراً يثري فكر الأمة، ويضيف إلى الإنجازات مقترحات يعمل بها المخلصون.
أدبه في الحوار والتعالي عن الخصومة:
لم يضق محمد أحمد الرشيد ذرعاً بالذين اختلفوا معه، ولم يرد الصاع صاعين للذين هاجموه بقسوة وتحاملوا عليه، وحملوه ما لم يقل أو يفعل بل كان شعاره قول ربه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. وقد هاجمه بعض أصحاب الأقلام فأغلظوا عليه القول فيما كتبوا، ولو ناقشوه في رأيه أنصفوا أنفسهم وأنصفوه، ولكنها آفة الهوى والجهل بأهمية احترام الرأي الآخر.
كنت أراه يتألم فأسأله فيقول لي: لا يؤلمني خلافهم معي فذلك حقهم وأنا أسعد به، ولكن يؤلمني أنهم قوم لا يفقهون، يهاجمون شخصي ظناً منهم أن ذلك يسكتني عن ما أعتقد أنه حق. وأذكر أنه سافر إلى الولايات المتحدة في صيف 2012م وكان قبل سفره بأيام قد كتب أحد هؤلاء مقالاً استعدائياً مؤلماً مس فيه شخصه بل وتطاول حتى على وطنيته. لا أذكر أني رأيته متألما كما رأيته تلك الليلة. والحقيقة أني في تلك الليلة عرفت كيف ترتسم ملامح كظم الغيظ على الوجه في الوقت الذي كان فيه يبتسم للداخلين عليه من رواد ندوته التي تقام مساء كل يوم سبت في بيته، فرأيته يهش ويبش لهم بترحابه المعهود، فعجبت من قدرة هذا الرجل على احتمال الأسى الأذى. ولما خرج الناس رأيته يسرح بفكره بين الفينة والفينة فعرفت أنه لا يزال متألماً، فقلت له: رد عليه لأنه تطاول وتجاوز حدود الخلاف في الرأي إلى الطعن الشخصي.
فسرح لحظة غابت بعدها سحابة الكدر التي كانت تتوارى خلف ملامحه ثم أضاء وجهه بابتسامة ومال نحوي هامساً بقول الإمام الشافعي:
إذا سبّني نذلٌ تزايدْتُ رفعةً
وما العيبُ إلاّ أن أكونَ مُساببهْ
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزةً
َلمَكَّنْتُها من كلِّ نذلٍ تحاربُهْ
ومرت أيام وأنا أشعر بغيرة الابن على أبيه والتلميذ على أستاذه أن يُضام، وأمام سيطرة مشاعر وفاء رأيت أن ردي على الرجل الذي هاجمه سيكون موفقاً نظراً للسقطات الكبيرة التي وقع فيها الخصم. فلما التقيته أودعه لأنه كان على وجه سفر للولايات المتحدة الأمريكية وسيغيب شهراً، رأيته لا يزال متألماً فقلت له: فكرت أن أكتب رداً موضوعياً وغير مباشر على صاحب المقال وسقطاته كبيرة وواضحة، وسيكون في الحقيقة دفاع عن الحق العام وليس عنك، فالرجل خرج عن أدب الحوار إلى الشتم فأبدى موافقة وقال لي: أرسله لي على البريد الإلكتروني قبل نشره.
وكتبت المقال ثم اتصلت بالأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة فرحب بنشره لأن مقال صاحبنا نشر عنده. وأرسلت المقال بالبريد الإلكتروني فجاءني منه الرد بعد يومين بالآية الكريمة مجزوءة بهذا الشكل:
1 - (خُذِ الْعَفْوَ
2- وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
3 - وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
صدق الله العظيم. فألححت عليه أحاول إقناعه بمبررات كثيرة، فجاءني الرد منه فوراً حاسماً بهذه الأبيات:
واستشعر الحُلم في كل الأمور ولا
تُسرع ببادرةٍ يوماً إلى رجلِ
وإن بُليت بشخص لا خلاق له
فكن كأنك لم تسمع، ولم يقلِ
وللكف عن شتم اللئيم تكرُماً
أضر له من شتمه حين يُشتم
ثم أتصل بي شقيقه د. عبدالله بن أحمد الرشيد يؤكد لي عدم التهور بنشر المقال.
رحم الله محمد أحمد الرشيد فقد عاش حياته عفيف النفس، نقي السريرة، صادق القول، مخلص العمل، وذهب إلى لقاء ربه راضياً مسروراً لا يحمل في قلبه على إنسان ضغينة، فليحشره الله مع الأبرار والعافين عن الناس ويجعل الحنة مثواه.
تغريدة:
الناس صنفان: موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الأرض أحياءُ