أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة التاسع من ديسمبر يوماً دولياً لمكافحة الفساد في ظل تنامي الاهتمام العالمي بمكافحة هذه الجرائم التي تهدد اقتصاد الدول واستقرار المجتمعات خاصة بعد استفحالها في ظل العولمة وتطور الاتِّصالات، الأمر الذي جعل منها داءً عالمياً مستعصياً على المكافحة بصورة فردية وهو ما يحتم ضرورة العمل الجماعي والتعاون الدولي لمكافحتها.
وترتب على جرائم الفساد بمختلف صوره وأشكاله تبعات خطيرة تتماثل جميعها في درجة خطورتها، إِذْ يمكن لكل نشاط بشري أن يصبح بيئة صالحة للفساد الذي يصعب حصر منابعه خاصة في حال غياب الرقيب الفاعل وتوافر العوامل المساعدة، الأمر الذي يستدعي ضرورة رفع كفاءة الأجهزة الرقابية ووجود نظام محكم وواضح للعقوبات. مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التركيز في الإصلاح على تنمية البواعث الذاتية التي تسد باب الذرائع إلى الإفساد الاقتصادي والإداري من خلال التربية الروحية والخلقية والسلوكية. ويتحقق ذلك بتضافر جهود كآفة مؤسسات المجتمع وحث الجهات العلمية ومراكز البحوث المتخصصة على إجراء مزيد من الدراسات والأبحاث في مجال حماية النزاهة الوظيفية والوقوف على الأسباب والدوافع التي تؤدي إلى الفساد.
كما انه من الواضح من خلال استعراض مظاهر الفساد وأسبابه أن مكافحة هذه الظاهرة لا بُدَّ أن تستند على جهود دولية مشتركة تتسق مع الإصلاحات الداخلية للهياكل الإدارية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية.
وإننا إِذْ نشارك العالم الاحتفال بهذه المناسبة المهمة فإنه من الأهمية بمكان التنويه والإشادة بالتطورات التي تشهدها المملكة العربية السعودية في هذا المجال، على الرغم من أن الفساد لم ولن يكون ظاهرة في يوم من الأيَّام في هذه البلاد المباركة التي تتخذ من كتاب الله وسنة رسوله شرعاً ومنهجاً، إلا أن هذا لا يمنع من الأخذ بالأسباب حتى نستحق أن نكون خير أمة أخرجت للناس، ولعل أبرز مظاهر هذه التطورات التشريعات الوطنية والأنظمة المختصة في هذا المجال كنظام مكافحة الرشوة ونظام مكافحة التزوير ونظام مكافحة الإثراء غير المشروع ونظام تأديب الموظفين ونظام مكافحة غسل الأموال وغيرها، كما أنشأت المملكة عدداً من الأجهزة الرقابية تقوم بالرقابة على تصرفات الموظفين والمحافظة على الأموال العامة المنقولة والثابتة ومن تلك الأجهزة ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، كما بادرت إلى فتح حساب بنكي أسمته حساب إبراء الذمة يهدف إلى إتاحة الفرصة لمن أخذ شيئاً من الأموال العامة أن يردها دون أي تبعات.
وتوجت هذه الجهود بإصدار الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد في العام 1428هـ وتنفيذاً لما نصت عليه هذه الاستراتيجية صدر الأمر الملكي الكريم بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وجعلها شخصية اعتبارية مستقلة مالياً وإدارياً ومرتبطة مباشرة بالمقام السامي بما يضمن لها مباشرة عملها بحياد.
وإن جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية إِذْ تشارك العالم الاحتفال بهذه المناسبة فإنها تستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقها إزاء النمو المطّرد لجرائم الفساد، وبالتالي إزاء الأضرار البشرية والاجتماعية والاقتصادية الخطيرة الناتجة عنها، وانطلاقاً من ذلك وفي سياق تنفيذها للإستراتيجيات العربية في هذا المجال ومن خلال تلمسها لاحتياجات الأجهزة الأمنية العربية في شتَّى المجالات، مواكبة منها لتضاريس العمل الأمني فقد أولت الجامعة قضايا مكافحة الفساد ما يجدر بها من عناية واهتمام بتوجيه مباشر ومتابعة لصيقة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب ورئيس المجلس الأعلى للجامعة واضعة في اعتبارها أن الفساد يشكل تهديداً رئيساً لأمن المجتمعات وعوامل نهوضها وتنميتها في شتَّى مناحي الحياة، وقد سعت الجامعة لتكثيف جهودها في تطوير أساليب مكافحة الفساد، بأساليب علمية وتطبيقية عدة حيث نظمت في مجال مكافحة الفساد (20) دورة تدريبية وحلقة علمية و(10) ندوات علمية وأجرت(10) دراسات علمية وناقشت (32) رسالة ماجستير ودكتوراه ونظمت (19) محاضرة ثقافية، وأصدرت مجموعة من الإصدارات العلمية أضحت مراجع رئيسة للباحثين في هذا المجال.
كما أن هناك شراكة استراتيجية بين الجامعة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالمملكة نفذ في إطارها العديد من المناشط المهمة، كان آخرها حلقة حماية النزاهة في العام 1435هـ والتي خرجت بالعديد من التوصيات العلمية والعملية المهمة. ولعل من أبرز ما نفذته الجامعة في سياق جهودها لمكافحة الفساد هو تنظيمها للمؤتمر الدولي لمكافحة الفساد الذي عقدته بالتعاون مع الأمم المتحدة وأفضى إلى إعلان الرياض الذي غدا من الوثائق الدولية.
إضافة إلى التنسيق مع المنظمات والمؤسسات الإقليمية والعربية والدولية، والتعاون معها بقصد تبادل الخبرات والمعلومات في كل ما من شأنه تحقيق أمن وسلامة المواطن العربي من خلال إدارة التعاون الدولي بالجامعة.ويبقى كل هذا وذاك بحاجة لتكثيف الجهود وتكريسها ومواصلة التعاون لتفعيل الخطط والبرامج وتلافي الأخطاء والمعوقات التي تحول دون تحقيق الأهداف المنشودة.ان كل هذه الإنجازات في مجال مكافحة الفساد وغيرها ما كانت لتتحقق لولا فضل الله تعالى ثم الدعم المتواصل واللامحدود والتوجيهات السديدة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية ورئيس المجلس الأعلى للجامعة لهذا الصرح العربي الذي يوليه - حفظه الله - جل اهتمامه وعنايته، يسانده في ذلك إخوانه أصحاب السمو والمعالي وزراء الداخلية العرب للوصول بهذه المنارة العلمية العربية إلى المكانة التي تحقق أهدافها ويتطلعون إليها ـ يحفظهم الله ـ كما يطيب لي أن أغتنم هذه السانحة لأرفع الشكر والتقدير لحكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وسمو ولي ولي العهد ـ يحفظهم الله ـ على ما تجده الجامعة من كريم الرعاية والاستضافة حتى وصلت إلى هذا المستوى المتميز عربياً دولياً، كما نرفع أكف الضراعة إلى المولى عزَّ وجلَّ أن يتغمد فقيد الأمن العربي ومن تتشرف الجامعة بحمل اسمه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز بواسع رحمته، فهو صاحب الفكرة وغارس الشجرة الطيبة المباركة التي آتت أكلها أمناً يتفيأ ظلاله الجميع.