مللنا من تطرق الإعلام للفساد دون تحديد الفاسدين، نريد عملاً صحفياً فعلياً يفتح ملفات حقيقية ويُشهِّر بالفاسدين.. المهم الأداء وليس وضع أنظمة إعلامية لكشف الفساد لا تُطبق! هذا ما يكرره كثيرون عن الإعلام، فهل هذا الطرح مكتمل متوازن؟
هذا الطرح، كان أيضاً، صاحب الإثارة الأقوى في نقاشات الندوة التي عقدتها، الأسبوع الماضي، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حول «دور المؤسسات الإعلامية والثقافية في تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد» بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد.
هل فعلاً الأنظمة الإعلامية لمكافحة الفساد لا ينقصها سوى التطبيق، وأن الإعلاميين مقصرون في كشف ملفات الفساد، والتشهير بالفاسدين؟ كيف يقوم الإعلام بدوره في مكافحة الفساد بينما يُمنع الصحفي من الحصول على المعلومات أو حتى الدخول لبعض المؤسسات الحكومية. فلو أن صحفياً أراد أن يكتب تقريراً عن أداء مؤسسة حكومية (مستشفى، مدرسة، بلدية ..)، يستطيع مدير هذه المؤسسة نظاماً أن يحجب عنه كافة المعلومات ويعيق وصوله للمعلومات اللازمة، بل يستطيع طرده برجال أمن المؤسسة إن قرر ذلك حسب مزاجه. لماذا؟
لأن نظام المطبوعات والنشر ولائحته التنفيذية (المظلة الرئيسية لكافة التشريعات الإعلامية بالمملكة)، لم يضع بنداً أو أي نص قانوني محدد عن حق الإعلامي في الوصول للمعلومات، ومحاسبة الموظف الحكومي الذي يمنع أو يعرقل ذلك، ولا مواد لحماية الصحفيين الذين يكشفون ملفات الفساد، الذين قد يتعرضون للمضايقة أو حتى الطرد غير المباشر!
ورغم وضوح القرارات الملكية السامية بضرورة تسهيل الحصول على المعلومات وكشف الفساد ومحاسبة الفاسد «كائناً من كان»، ورغم ما تضمنه قرار مجلس الوزراء في وسائل تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد بكفالة حرية تداول المعلومات باعتبارها مبدأً أساسياً للشفافية، فإنّ المهمة المكملة إعلامياً للتوجيهات الملكية هي صياغتها، من قِبل مسؤولي الإعلام، في إطار قانوني تفصيلي يضع مواد تشريعية محددة للمحاسبة (صلاحيات، حقوق، واجبات).. فأين هذه المواد؟ إنها غائبة!
بالمقابل كيف يقوم الإعلام بدوره الموضوعي في كشف الفساد إذا كان أي «إعلامي» يمكنه نشر تقارير ناقصة أو مجتزأة تتضمن اتهامات خطيرة دون أخذ رد كافة الأطراف المعنية. فلو أراد أن ينشر ما يظنه فضيحة في مؤسسة حكومية دون مراعاة أية ضوابط فإنه غالباً يستطيع ذلك، بل وربما ينجرف مدير هذه المؤسسة مع التهمة ويحكم سريعاً على المتهم، مثلما نرى في الإنترنت من صورة لمطعم أو مستشفى أو مدرسة أو حفرة في شارع، يتم عبرها إصدار حكم سريع وربما جزافي.. ولعل آخرها، قبل أيام، صورة سارية «برج الخرج» التي قيل إن تكلفتها نحو مليون ريال، متضمنة اتهاماً بالفساد، وتبين أن هذا المبلغ مجرد طرح مناقصة منافسة لم تتم ترسيتها.. لماذا هذا الظلم؟
لأنه لا توجد مواد ضابطة للكشف عن المعلومات ونشر الاتهامات؛ التي صارت تُلقى جزافاً في الإنترنت؛ يستثنى من ذلك ما أوضحته اللائحة التنفيذية لنظام المطبوعات والنشر، في المادة 88 بأن حق المتهم في الإعلام هو الرد فقط! وفي المادة 18 من نظام النشر الإلكتروني - وهي أحكام عامة - تم التطرق إلى استقبال شكاوى النشر الإلكتروني ورفعها للجنة للنظر فيها وإصدار القرار المناسب بشأنها.
ورغم أن آخر تحديث لنظام المطبوعات والنشر يدل على انفتاحه؛ وتخفيف القيود على النشاط الإعلامي، مثل السماح بإنشاء جمعيات للنشاطات الإعلامية (مادة 44)، والتوجه غير الرقابي (مادة 25)، وعدم منع الصحيفة عن الصدور إلا بظروف استثنائية (مادة 31)، فهناك غياب لمواد تتعلق بالكشف عن الفساد وحماية النزاهة. ولعل العذر بذلك يرجع إلى أن تكثيف توجه الدولة في محاربة الفساد بدأ في السنوات الأخيرة، بينما الأنظمة والتشريعات تحتاج وقتاً لوضعها.
ومن هنا تأتي مهمة، هي في تقديري من أهم نشاطات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بالمطالبة بوضع تشريعات لحق الوصول للمعلومات، وحق ضبط طرق نشر التقارير التي تتضمن اتهامات. فالإعلاميون بحاجة لتشريعات تتيح لهم النشر بشفافية دون عرقلة أو خشية من المساءلة القانونية، وتشريعات تحاسب المسؤولين الذين يحجبون المعلومات أو يعرقلون الوصول إليها. طبعاً الحديث عن المعلومات التي من حق العموم وليست المعلومات السرية الخاصة بكل مؤسسة فهذا شأنها. وفي نفس الوقت لا بد من تشريعات تضع ضوابط لعملية النشر لكي لا تكون جزافية.
هنا، أيضاً، تأتي مهمة المتحدث الإعلامي لكل مؤسسة حكومية التي ينبغي أن تكون منفتحة على الإعلام، وإدراك المؤسسة لطبيعة التواصل مع الإعلام في زمن الإنترنت، مثلما نرى في بعض المؤسسات التي أظهرت نجاحاً واضحاً في ذلك كوزارة الداخلية والديوان الملكي وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما مؤسسات أخرى يغط متحدثوها الإعلاميون في نوم بيروقراطي عميق، وإن استيقظوا تمنينا أن يعودوا لنومهم إما لرعونتهم أو للنقص الفادح في المعلومات التي يصرحون بها، لدرجة أن السائل يعرف أكثر من المسؤول!
أي عمل بنائي يبدأ بالكلام والنقاش ثم يتطور معه إلى التنظيم والرصد ثم يتطور مع كل ذلك إلى التنفيذ. يصعُب التطبيق بفعالية إعلامية في ظل أنظمة إعلامية ناقصة. فإذا كانت مشكلة بعض التشريعات التي تحتمل تأويلات متفاوتة أنها قابلة للتعسف، فإنّ غياب تشريعات ضرورية يجعلها جاهزة للتعسف.
نقل الإعلام لمعاناة المواطنين تجاه الفساد وحاجتهم لكشفه، يتطلب مناقشة التشريعات الإعلامية وتطرقها لموضوع الفساد، والفهم والممارسة الصحفية للإعلاميين في أسلوب كشف الفساد. يمكن تصور موضوع كشف الفساد إعلامياً كمثلث.. قاعدته التشريع الإعلامي الذي يمنح حق الوصول للمعلومات، وضلعاه: الأول: سلامة مصدر الاتهام إعلامياً (صحة المعلومة) والضوابط الخاصة بكشف الفساد؛ والثاني حقوق الذين يتعرضون للاتهام ، خاصة حقهم بأن توضع ردودهم في التقارير الصحفية التي تتناول أداءهم..
كم يرتاح المسؤول الفاسد عندما يطالع مقالات وتقارير تتناول الفساد بعمومية لأنه ينقصها المعلومات، فلا تكشف شيئاً غامضاً، بل أغلبها تقول ما يعرفه الجميع فيصابون بالملل وشعور بالخيبة من هذه التقارير، فالسلطة الرابعة تحاسب المجهول.. أليس هذا مريحاً للفاسدين؟
«الفساد في التقارير يبدأ في وقت مبكر جداً. إنها مثل تقارير الشرطة عن الشرطة.» جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس.