دائماً ما يرتبط مفهوم الاستبداد بالجسد والعضلات، واستخدام القوة البدنية لفرض رأي أو منهج محدد، لكن يبدو أن الحفريات المعرفية في الاستبداد أحدثت تطوراً في ذلك الاتجاه، والتي وصلت إلى أن تفتح فصلاً جديداً في كتاب الاستبداد الضخم، وتضع له أنماطاً اجتماعية، ويُطلق عليها الاستبداد الرمزي، كما تناولها عالم الاجتماع العراقي شاكر شاهين في كتابه القيم، الاستبداد الرمزي، الدين والدولة في التأويل السيميائي.
من أشهر ثنائيات الاستبداد الرمزي العلاقة بين الطبيب والمريض في مختلف المجتمعات، وخصوصاً في المجتمعات التي تنتشر فيها الأمية المعرفية، فالمريض يشعر عند لقائه بالطبيب أنه أمام خطاب من اتجاه واحد، وخلال ذلك اللقاء يستبد الطبيب بالرأي، ويهيمن على شخصية المريض لدرجة الاستسلام، ويسهم في ذلك غياب قنوات المعرفة الطبية عند الإنسان العربي بسبب العائق اللغوي.
يبدو الاستبداد الرمزي في أكثر صوره قدسية عندما يكون الحوار بين شخصية تقدم نفسها على أنها صورة للفضيلة وللعلم الشرعي، وبين إنسان متلقٍ من عامة الناس، عندها يكون أيضاً الخطاب من اتجاه واحد، وعلى الآخر أن يلتزم الصمت ويستمع ويطيع، وهو بذلك يخضع لتلك الهالة الرمزية التي تظهر حول الشيخ، ولو حاول أن يختلف في الرأي مع فضيلته سيكون في موقع المجادل في قول الله عز وجل ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
كذلك تظهر تلك الأنماط الرمزية الاستبدادية في صور اجتماعية مختلفة، منها على سبيل المثال أن يتقدم مواطن لوظيفة عند المدير العام الذي يعلق شجرة عائلته وقبيلته خلفه مباشرة، وينتشر حوله موظفون من منطقته وقبيلته، عندها سيشعر المواطن الذي يختلف انتماؤه أنه غير مرغوب، وأن فرصته في الحصول على الوظيفة شبه معدومة، وليس عليه إلا أن يلملم أوراقه، ويذهب إلى مؤسسة أخرى.
تظهر أعراض الاستبداد الرمزي عندما يوجد إنسان حضري لا ينتمي لقبيلة في مجلس عام يتزعم الحوار فيه شخصيات تقدم نفسها على أنها شيوخ قبائل، ويكون الحوار في المجلس حول نقاوة أصولهم القبلية، وعن تاريخ قبيلتهم ومكارمها في عصور الفوضى قبل توحيد البلاد..، سيتعرض ذلك الشخص لموجة قمع قاسية في إنسانيته، ويعد هذا النموذج ضحية لأحد أشهر أنماط الاستبداد الرمزي في المجتمع.
كما تظهر تلك النمطية الفوقيه في أي حوار اجتماعي غير متكافئ، يكون أحد أطرافها شخصية تقدم نفسها على أنها صاحبة الوجاهة الاجتماعية المعروفة، والتي ترمز أن قدرها الاجتماعي يسمو ويفوق الآخرين الموجودين حوله، وبهذا يفرض شخصيته الاعتبارية، ويهيمن استبداده الرمزي على أطراف الحديث، وسيحاول الآخرون أن يتكيفوا مع تلك الأجواء، وأن يلتزموا بأداب الاستبداد الرمزي.
من أشهر أعراض الاستبداد الرمزي أن يحاول مواطن من منطقة نائية أن يتحدث بلهجة أهل المناطق الأكثر نفوذاً، وأن يوحي للآخر أنه يجيد فن المماهاة مع تقاليد المركز، وكأنه بذلك يوحي للجميع أنه خاضع لتلك الرمزية المهيمنة، وأنه يستجيب لها خاضعاً بالتماهي معها من خلال محاكاة تقاليدها وأعرافها ولهجتها ولباسها.
من أعراضه أيضاً ظاهرة التحول إلى تقاليد البداوة، وذلك عندما يتخلى أبناء الحضر عن مهنهم وتقاليدهم في العمل والزراعة والإنتاج، ويتشبهوا بحياة البدوي القديم الذي لا يحبذ العمل اليدوي، ويستخدم أساليبه القديمه في البحث عن الرزق، ثم يزايدون على البدو في تقاليدهم وهيئتهم، وكأنهم بذلك يخضعون رمزياً لأعراف البادية وشعورها المزيف بالسمو عن سكان القرى والمدن.
من أعراضه أيضاً أن يحاول بعض الحاصلين على الجنسية من بلاد عربية أخرى أن يتحدثوا بلهجة محلية محددة، وأن يجيدوا ارتداء الملابس الشعبية، وكأنهم بذلك يعلنون ولاءهم للوطن، بينما الأمر لا يتطلب أن يظهر في هيئة الخضوع للسمات العامة، ولكن يتطلب أن يظل الإنسان على هيئته الطبيعية، وأن يلتزم بالولاء للوطن، ويحترم أنظمته.
من أشهر علاماته في المجتمع العلاقة بين الرجل والمرأة، فالرجل له أن يتحدث عن مغامراته وزواجاته وقصص خروجه عن النص والتقاليد، بينما على المرأه أن تلتزم بأدب الحديث، وأن تظهر التزامها بالأعراف الاجتماعية والأوامر الدينية، وأن تظهر الخضوع لتلك المرجيعات في هيئتها العامة، وذلك من أجل أن تكون مؤهلة للحياة مع رجل، ولو كان من تلك النوعية المستبدة رمزياً.