حسب رؤيتي، نحن في موجة صاعدة من التغيير في الوعي المفهوماتي، سواء بدلالة المفاهيم أو بمنطقيتها، منطلقاً من نخبويتِه لعامة الناس؛ لأن الوعي تراكمي، وليس تفارقياً، يؤسسه العلم بمعاني ودلالة الكلام. الأرضية الثابتة هي ما تجعل البناء أكثر تماسكاً. وأرضية الوعي ثباتها في كونها رحبة في التغيير. يُقال إن التغيير هو الثبات الوحيد، والثبات هو الخطيئة الوحيدة. التغيير ليس خطة تنتهي بنتيجة إحصائية عن كمية ومقدار التغيير، إنما هو نتيجة تراكمية - أيضاً - لسيالات متدفقة من محاولات فردانية، تسعى لتوسيع الآفاق وتحريك مياه المفاهيم الراكدة. اللعب على الدلالة وتأصيل المعاني مغامرة غير محسوبة، لكنها حتماً ستنتج التغيير. يقول أنيس منصور: «ليس كل ما تواجهه يمكن تغييره، ولكن لا تغيير بلا مواجهة». تشير هذه المقولة لمصبّين يؤديان للمجرى ذاته: المصب الأول هو: «التغيير بحاجة للمواجهة». لكل مرحلة صوت فريد في جوقة السائد، يرفض الذوبان في النسق، ويختار المواجهة. هؤلاء هم صانعو التغيير. الثاني هو: ليس كل ما تواجهه يمكن تغييره. مثلما أن ليس كل أرض صالحة للزراعة، هناك عقول سبخة؛ لا يمكن أن تحتضن البذور، أو تؤتي زرعاً. هؤلاء هم عثرة التغيير وعائقه الأكبر.
ديوانية الملتقى الثقافي في القطيف هي أحد أهم صانعي التغيير في المنطقة وما حولها، في مواجهة طويلة أثمرت تغييراً شهدته شخصياً بعد انقطاع سنوات عن المشهد الثقافي في المنطقة الشرقية، في أمسية لمناقشة «الإسلام السياسي والخيار المدني» مع ضيفين لهما أثرهما المشهود في هذا الصدد: الدكتور خالد الدخيل والدكتور بدر الإبراهيم. والعارف للضيفين يدرك تماماً أن أحداً منهما لا يمثل صوتاً طائفياً، ولا ينطلق من خلفية مذهبية، رغم اختلافها. كلمة الدكتور الدخيل تناولت العمر التاريخي للإسلام السياسي وأسبابه، مبحراً في إشكالية الحكم العربي ما بعد وفاة الرسول لليوم، متمثلاً في إيران والتجربة الإخوانية، كما تناول الوهابية والشيعة في محاولة لتتبع أثر النشوء والدعم، واستعرض العلمانية تفصيلاً وتحليلاً، ومحاولة تدجينها أمام مخاوف الإسلاميين. كما تحدث الدكتور الإبراهيم عن النخبة العربية كلها بإسلامييها وعلمانييها، وأن لديها إشكالات مع الديمقراطية. والدراسة لا يجب أن تقتصر على علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية. وأن هناك مشكلتين رئيسيتين عند غالب تيارات الإسلام السياسي مع الديمقراطية: الأولى تتمثل بالتأصيل النظري للديمقراطية عند الإسلاميين، عبر محاولة التوفيق بين مصطلحات حديثة، مثل الديمقراطية والمواطنة ومصطلحات تراثية لا تتطابق معها، مثل الشورى والأخوّة الدينية والتعامل مع أهل الذمة. الثانية هي أن غالب تيارات الإسلام السياسي هي حركات هوية، وليست أحزاباً تحمل برامج عمل سياسية؛ ولذلك هي تدخل في صراعات هوية داخل المجتمعات العربية. وقد ضرب مثلاً على هذا بالأحزاب الشيعية الطائفية في العراق، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ إذ نشأت صراعات هوية مع وجود هذه الأحزاب والحركات وإصرارها على الصراع على هوية الدولة مع الأطراف الأخرى.
ما ذكرته هنا مما علق بذاكرتي؛ فلا يُحسب على الضيفين، لكنه اجتهاد على أي حال لمقاربة ما طرحه الضيفان العزيزان، وهو يصب في إسهام الملتقى الذي يحتضنه منزل الأستاذ نجيب الخنيزي في القطيف في صناعة الوعي وتحريك المياه. ولكن لا بد من وجوه عناصر ممانعة لهذا الحراك الثقافي الغني والمثمر؛ وهو في الحقيقة ما أذهلني وأضحكني في الوقت ذاته، عندما داخل أحد الحضور موجِّهاً كلمته للدكتور الدخيل: أنت تقدم نفسك كصوت مضاد للطائفية وأنت طائفي متخفٍ؛ بدليل أنك ذكرت إيران 10 مرات، وذكرت السعودية 3 مرات!!!!
هنا يأتي الشق الثاني من مقولة أنيس منصور: ليس كل ما تواجهه يمكن تغييره.
هنا أتوقف، وأترك التحليل والتعليق والشعور بالأسف للقارئ الكريم، ولربما يكون مدخلاً لمقال قادم.