لاحظ الأطباء شيئاً غريباً في الحرب العالمية الأولى.
هذه الحرب الطاحنة أبادت خَلقاً عظيماً، والذين عاشوا بعد انقضائها لربما تمنوا أن لم يعيشوا بسبب التقنيات الجديدة التي جعلت الأسلحة أشد فتكاً من ذي قبل، فأصيبت أعدادٌ غفيرة من الناس بالشلل والعمى والجروح والأمراض، وأثناء اشتعال المعارك نفسها نفدت الأدوية المسكنة للألم، فلما تكاثر المصابون وعلا أنينهم واحتار المسعفون فيما يصنعون أعطوا المصابين «أدوية» وهمية .. مواد ليس فيها أي دواء، لكنها المحاولة الأخيرة اليائسة، لعل هذا يريح بال المصاب ولو قليلاً أو يشغله، وكم تفاجأ المسعفون لما رأوا الجرحى تزول آلامهم وتتحسن صحتهم! ظنوا أن هناك خطأً في تشخيصهم أو فهمهم، لكن أعطوا المزيد من المصابين أدوية وهمية وكانت النتيجة المفاجئة أن الدواء الوهمي فعّال!
هذا شيء طيب وهو من ألغاز المخ، فمن الحقائق التي تتجلى باستمرار هي أن المخ لا يفرِّق بين الواقع وبين الخيال، وهذه يدركها من – مثلاً – يشاهد فيلماً مخيفاً، فرغم أنه يعرف أنه خيالي وشخصياته يمثلها بشر ومشاهده قائمة على مؤثرات حاسوبية، إلا أن العقل يصدق رغم هذا ويتفاعل، فتزداد ضربات القلب ويجف الفم وتتوتر النفْس. وكما أنّ المخ يصدق الدواء الوهمي فهو أيضاً يصدق المرض الوهمي، فلو أُعطي المرء قرص دواء وقيل له إنه يحوي مادة ضارة فإنّ الجسم يضعف مع تناول الحبة ويظهر الألم عليه، وهذه من سلبيات الحقيقة نفسها، فالجسم سيمشي في الطريق الذي يحدده العقل ولو كان طريقاً مزيفاً خُطَّ في الهواء!
إذاً هو سلاح ذو حدين، فإذا أسأت استخدامه أضرّك وإن أحسنت نفعك، وهذا أيضاً ينطبق على خاصية أخرى للمخ وهي أنه لا يُكذِّب شيئاً إلا بعد أن يصدقه أولاً. عجيب، أليس كذلك؟ لكن هذه هي الحقيقة التي أظهرها العلم، فقد طبّق العالِم ويليام بوسل من جامعة هارفارد، تجربة علمية باستخدام جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي على أدمغة متطوعين، ولخّص لنا إحدى نتائج التجربة فقال: «إنّ عقولنا مبرمجة أولاً أن تفهم .. ثم تؤمن .. ثم تكذّب. بما أن التكذيب يتطلب جهداً عقلياً أكبر فإننا نحصل على الآثار الفسيولوجية أولاً». ومعنى ذلك الجزء الأخير أنك لو حصل لك شيء سيئ – مثلاً زل لسانك أثناء الخطبة أو أخطأت أثناء التقديم –، فإنك لو قلت لنفسك بسرعة: «هذا شيء جيد!» فإنّ عقلك سيصدق هذا فوراً وستدفن القلق والاضطراب بسرعة، ولو عادا من جديد فسيكون التأثير أقل بكثير. هذه من طرق إحسان استخدام هذا السلاح العقلي، أما إساءته فنأخذ الدعايات لها مثالاً، فالدعايات عموماً يستحب أن تتجنبها لأنّ فيها حثاً شديداً أن تصرف أموالك في سلع معظمها غير ضروري، لكن أسوأ وقت تشاهد أو تقرأ فيه دعايات هو عندما تكون مرهقاً ذهنياً، ووجد العِلم أدلة تثبت أنك في هذه الحالة ستصدق الدعاية، ولن تقدر أن تولّد طاقة ذهنية كافية لأن تعارض مزاعم الدعاية وتكذّب ما فيها، وهكذا تبتسم شركة الدعاية ابتسامة الظَّفر ويذهب مالك هدراً في كماليات.
كما ترى، للعقل أدوات كثيرة ودائماً يمكن استخدامها إما في نفعك أو ضررك، فاحرص أن تجعلها في صفك دائماً لا سلاحاً عليك.