وجاني يهيف أهداب عينه مراديف
فيها المنايا مثل موج الغديري
مخلد القثامي
هذا بيت من قصيدة جميلة، ذكر الرواة لها مناسبة مثيرة، لا يتسع المقام لذكرها. والشاعر مخلد القثامي (1280 - 1340هـ) أحد فحول شعراء الجزيرة, لكنه لم ينل ما يستحقه من الشهرة، وخصوصاً خارج منطقته. وهو من مواليد عشيرة العقيق (قرب الطائف), وأحد شعراء عتيبة المبرزين.. يقول في قبيلته:
حنا عتابه كم حريب لطمناه
دقلاتنا مثل الخيال الرزيني
وعتابة: هي عتيبة بلهجتهم, ففيها يقلبون الياء ألفاً إذا كانت حرف لين. وهم الذين يقولون (السلام علاكم)، أي عليكم, ونحو ذلك مما هو معروف.
وفي بيت السياحة أعلاه يقول (جاني يهيف) أي يتبختر. والهَيَف بفتحتين: الرشاقة ودقة الخصر (فصيحة). و(أهداب عينه مراديف) أي متراصة متصافّة. وفي هذا التعبير إيحاءات خيالية متنوعة؛ ففيه على المعنى المجرد تعبير عن الجمال بكثافة الأهداب واصطفافها, وعلى المعنى الخيالي تعبير عن صورة السهام القاتلة المستعدة لإصابة أهدافها في بؤر القلوب المغرمة بالجمال, فكأنها منصة إطلاق الصواريخ. قال حلوان الحلوان:
صواريخ (سام) اللي تهدد بها العينين
هدفها القلوب تصيبها بالمية ميه
ولا تنتظلّل كل فتّان فيه اثنين
خلقها الله المعبود ما هيب روسيه
ويؤيد هذا المعنى قول مخلد في الشطر الثاني (فيها المنايا مثل موج الغديري), فترادفها ما هو إلا اصطفاف عسكري استعداداً لإرسال المنايا لأهدافها.
والشطر الثاني هنا هو باعث اختيار البيت موضوعاً للسياحة؛ فقد توقفت قليلاً عند تشبيهه غارات المنايا التي تشنها أهداب المحبوب بموج الغدير, وتساءلت فيما بيني وبين نفسي عن مقصوده بـ(موج الغدير)، وهل ألجأته القافية الذلالة إلى اختيار (الغدير) بديلاً للبحر أو المحيط؟ أم أن له رؤية أخرى في الصورة مغايرة لما يتبادر للذهن لأول وهلة؟ فقد ارتبطت الصورة الذهنية للأمواج بالعنف والشدة, وليست كذلك أمواج الغدير, هذا إن صح أن يوصف بأن له أمواجاً!
إذن.. فما حقيقة الصورة التي أرادها مخلد هنا؟ وماذا يقصد بأمواج الغدير؟ أظن - والله أعلم - أنه أراد بـ(موج الغدير) تلك التيارات التي تتشكل على هيئة أمواج مصغرة على صفحة الماء عندما يداعبها النسيم, والغدير صورة مصغرة للبحر, أو تلك الدوائر التي تتشكل وتتمدد عندما يُلقى في الغدير حجر أو غيره، قال ابن الرومي يصف عمل الخباز:
إن أنسَ لا أنسَ خبازًا مررت به
يدحو الرُّقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كُرةً
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يُلقى فيه بالحجر
فاندياح الدائرة - أي تمددها وتوسعها - هو أقصى ما يعتري الغدير من الموج، ولعله هو ما أراده مخلد. فعيون تلك المحبوبة تقتل بهدوء تلك التيارات، لا بعنف موج البحر. وقتل الهدوء أفتك من قتل العنف؛ لأنه يأتي على حين غرة!