أ- قرأت كتاب: (مكّة) لهذا المستشرق الهولندي بعد عدد سنين من طباعته عام1411 ثم 1419، واختار من تولى صياغة الترجمة والتعليق عليها أثابهما الله تسمية الكتاب: (صفحات من تاريخ مكّة المكرمة) على عادة الغربيّين الإيجاز المفيد وعادة العَرَب الإطناب بما يزيد عن الحاجة، وحَرِصا على إثبات وَصْف الصوفية ومن تبعهم مكَّةَ بالمكرّمة والمدينة بالمنوّرة حيثما ذكرتا في الكتاب، ولم يَصِفْهما الله تعالى ولا نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك، وخير وَصْفٍ لمكّة ما وصف الله به بيته المسجد الحرام بقوله: {مباركا}، وخير وصف للمدينة: (النبويّة) نسبة لمن أعلى الله شأنها به مهاجراً ومقيماً حتى لقي الله، ولكن الأستاذين أجادا وأفادا وفقهما الله.
وُلِدَ سنوك (عبد الغفار) أول النصف الثاني من القرن الثّالث عشر الهجري، ومات في منتصف العقد الرابع عشر الهجري (تقريبا)، وبعد أن أنهى دراسته في جامعة ليدن - هولندا بدرجة دوكتوراه (تقدّم لها وحصل عليها بدراسةٍ عمّا سُمِّي: احتفالات مكّة)، ورغب في زيارة مكة، أو لعله رغب في الإسلام فأقام سنة في جزيرة العرب، نصفها في جدّة ونصفها في مكة، ثم أُخْرج من مكة دون إبداء السّبب؛ فاخْتُلِفَ في سبب إخراجه، فقيل: إنّه بسبب اتّهامه بمحاولة نقل حَجَر أثريّ إلى ألمانيا عُثِرَ عليه في تيماء، وقُتِلَ بسببه مَنْ حاول نقله إلى فرنسا، وقيل: بل لعلّه كُشِفَ هدف آخر لقدومه إلى مكّة وجدّة، والمرجع: الظّنّ، ولا يغني من الحق شيئا.
وبعد خروجه من مكة لبث مدّة قصيرة في جدّة ثم سافر إلى جاوة، فعمل مستشاراً للدّولة الهولنديّة (17) سنة أثناء احتلالها للمنطقة، ثم عاد إلى هولندا وانصرف للعمل الأكاديمي البارز نحو (30) سنة حتى مات.
ويجدر بالباحث في سيرته أن يعلم:
1) أنّه قبل إسلامه كان يصف نفسه بأنه لا ديني، فلا أساس لاتّهامه بالتّبشير.
2) أنّه أعلن إسلامه أمام قاضي جدّة ومندوبَيْ حاكم مكّة العثماني.
3) أنه حذّر الحكومة الهولندية من إيذاء المسلمين في مستعمراتهم بسبب تدينهم.
4) أنّه ردّ على كافة المستشرقين سوء فهمهم للإسلام.
5) أنه لم يسبقه ولم يلحقه أوروبيّ ولا عربيّ ماثَلَه في دقّة وعُمْق محاولته التوثيق للحياة السّياسية والاجتماعيّة والدّينيّة في مكّة المباركة، وزاد عليه (عبد الله فلبي) في مدّة الإقامة وقَصُرَ عنه في التوثيق والتحقيق عن مكّة.
ب- ويجدر بالباحث في سيرة (سنوك) أن يعلم:
1) أنّ لقدومه إلى جدّة فمكّة، ثم إقامته في جاوة للعمل الحكومي (17) سنة، ثم عودته للعمل الأكاديمي (30) سنة في هولاندا حتى مات؛ أن لكلّ ذلك علاقة بعمله الأكاديمي في جامعة ليدن - هولاندا.
2) أنّ فيما رُوِيَ عنه أنّ القنصل الهولندي في جدّة هو أوّل من دعا بعض طلاب العلم والعلماء لمناقشة (سنوك) عن رأيه في الإسلام وأنهم أعجبوا بما سمعوه منه فقالوا له: أنت أخ لنا وواحد منّا، وتبع ذلك زيارة قاضي جدّة ومندوبي الحاكم، وإعلان (سنوك) الدخول في الإسلام، ثم الانتقال من جدّة إلى مكّة خمسة أشهر ونصف تقريباً.
3) لم يدّع أحد ممّن بحث أمره أنّه نقض إعلانه الإسلام (48) سنة حتى مات، ووَجَدَتْ جامعته بين أوراقه شهادة بثباته على الإسلام وأنّها مُزِّقَتْ مُحافظة على سُمْعَتِه وسُمْعَة جامعة ليدن بهولاندا التي وَرِثَتْ منزله.
ولكنّ رواية أخرى أنّه كتب لصديقه (c.bezold) في 1886-2-18 بأنه تظاهر بالإسلام، وأن خطابه محفوظ بمكتبة جامعة (heidelberg) بألمانيا.
4) كان يلين للإسلام والمسلمين في الدّين، ويشتدّ في كَبْح جماح ثورة المسلمين في منطقة عمله على المستعمرين الهولنديّين.
ج- وإذا ثبت إسلامه بيقين فلا يجوز الحكم عليه بالكفر دون بيّنة بل بالظّنّ والرّوايات المتناقضة، ولا بسياسته الإدارية المخالفة لمصالح المسلمين الوطنيّة لو صحّت الرّوايات عن كلّ ذلك.
وكان د. محمد السرياني ود. معراج مرزا (مِنْ بين مَنْ ذُكِرَتْ أسماؤهم في الحكم على د. سنوك بالإسلام أو الكفر) أقرب إلى الشرع والحق والعدل، وأبْعَدُهم: د.قاسم السّامرّائي الذي لم يُعْرَف بالأهلية لهذا الحكم علماً ولا عملاً، وأقلّ سوءاً: الأستاذ حمد الجاسر (تجاوز الله عنهم جميعا) الذي انصرف أكثر حياته عن العلم والعمل الشرعي اليقيني إلى البحث التاريخي والجغرافي الظّنّي، وكان جائراً في حُكْمِه عليه بلا بيّنة.
د- وكان د.سنوك (عبد الغفار) خير مستشرق قاده البحث إلى جزيرة العرب (سواء مَنْ أعلن إسلامه مثله أو من رفض ادّعاء الإسلام رغم تهديده بالقتل مثل: دوتي (doughty) في دقّة وعمق بحثه وقرب نتيجة بحثه للحق والعدل، وإليك البيان:
أولاً: اخترت مما ذكره عن الحياة السّياسيّة في مكة ما يلي:
أ- قال: (ظهر في شرق جزيرة العرب مصلح [مجدِّد] للإسلام، وسانده أمراء الدّرعيّة ثم آمنت بدعوته كلّ مراكز الجزيرة العربيّة.
(وكان هذا المصلح ينوي أن يعيد الحياة للإسلام الحقّ في كلّ مكان يستطيع الوصول إليه)، (وقدم إلى مكة (30) وهّابيّاً للدّعوة إلى التّوحيد الخالص عام 1163 وقد لقوا معاملة غير لائقة حسب ما يرويه مؤرخو مكة، وكانوا يعيدون الكرّة كلّما تسلّم حاكم جديد السّلطة في مكّة، وعرض عليهم الشّريف سرور السّماح لأهل نجد بالحجّ مقابل دفع أموال طائلة أكثر مما يدفعه الآخرون فرفضوا، ثمّ كرّروا طلب السماح لهم بأداء فريضة الحجّ كلما تسلّم الحكم في مكّة شريف جديد غير أنّ النتيجة دائماً تكون بالرّفض، وفي عهد الشّريف غالب تعدى الأمر رفض طلبهم إلى قتالهم)، (لقد استطاع محمد بن عبد الوهاب - بجدارة تامّة - أن يبرز الإسلام بالصّورة الصّافية النّقيّة كما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الصّورة لم تكن واضحة لكثير من علماء عصره لتركهم منابع الإسلام الأولى وهي القرآن والأحاديث النّبويّة واعتمادهم على اجتهادات المتأخّرين المبنيّة على التّطوّرات المستمرّة لمختلف المذاهب عبر القرون مما حال بين المسلم ومنابع التشريع الأولى؛ فأصبح المسلمون يهتمّون بالفنون التّرتيليّة للقرآن والحديث دون البحث عن المعاني المستفادة منهما)، (وكانت نَجْد مناسِبَةً للدّعوة التي قام بها لأنّها وحدها لم تتغيّر في لغتها وعاداتها كثيراً عمّا كانت عليه في الأصل عند ظهور الإسلام)، (وقد حرّم ابن عبد الوهّاب وسائل التّرف الحادثة مثل الموسيقى ولبس الحرير واستعمال الذّهب والفضّة والحُلِيّ للرّجال وغيرهما من العادات السّيّئة المنتشرة في بلاد المسلمين).
ب- (وأهم ما أثار الغيرة الدّينيّة لدى محمد بن عبد الوهاب: الخطر الذي تسلّل إلى عقيدة التّوحيد عن طريق تقديس الأولياء فكان [الدّعاء] والاستعانة والاستغاثة بالأولياء [الأموات أو الغائبين] عند الأكثرين الجسر الذي يعبرون منه إلى الشرك وعبادة أكثر من إله، وكان تساهل العلماء في إنكار ذلك من أهمّ أسباب زيادة هذه المنكرات وانتشارها).
(إنّ رسل الله وأولياءه لا يستطيعون بعد موتهم أن ينفعوا أو يضرّوا أحداً، فالأمر لله وحده، وتقديس المقامات والأضرحة هي من عمل الشيطان وكانت المدينة تدنّس بتقديس قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور أصحابه الكرام، وتنقية الإسلام تستلزم القضاء على مثل هذه العادات الشّركيّة.. لقد التزم محمد بن عبد الوهّاب بالإصلاح وجعله هدف دعوته وكان رائده الإخلاص في القول والعمل، وسخّر لذلك لسانه وقلمه، وجعل مدرسة الإمام أحمد بن حنبل أساساً لدعوته المدعومة بسيوف آل سعود).
ج- (وكان تقدير أهل مكّة والمدينة لنجاح هذه الدّعوة السّلفيّة أقلّ من غيرهم لأن ما تطالب هذه الدّعوة بإلغائه كان من متطلّبات الحياة في المدينتين المقدّستين مكّة والمدينة، فالقبور والأضرحة والمزارات كانت تجلب المال والجاه للأدلاء والسّدنة... وكان وجود قوّة أخرى في جزيرة العرب تعمل على وحدة أجزائها كافيا لإثارة التّنافس بينها وبين حكّام مكّة فكيف إذا اقترن وجود القوة المنافسة بحركة إصلاح دينيّة لا تقبل أيّ تحديدٍ لمجال نفوذها).
(بدأ الشريف غالب بتثبيت سيادته بالقضاء على إخوانه وغيرهم من الأشراف المعارضين له، ثم قضى 16 عاماً في محاربة خصومه الجّدد [الدّولة السعوديّة] وبلغ عدد غزواته 56، غير أنّ الهجوم المضادّ كان عنيفاً لا يكلّ، يقوّيه المبدأ الدّينيّ الذي يؤمن به خصومه [السّعوديّون].
ولم يكن البدو في المناطق المتنازع عليها [تربة والخرمة وبيشة ونحوها] ملومين لاستجابتهم للدّعوة السّلفيّة، فلم يُقَدِّم لهم حكّام مكّة غير الحملات التّأديبيّة عقاباً لأدنى مخالفة على عكس ما جلبته لهم الحركة الإصلاحية من طمأنينة وأمن في ظلّ دولة قويّة، ومن احترام وتقدير لهم، ومن تعليمهم وإرشادهم بل تجديد إسلامهم بعد جهالة شديدة أشبهت العودة إلى الكفر والضلالة).
(لم يجد الشريف غالب بدّاً من عقد اتّفاق مع أمير الدّرعيّة بعدم تدخّله في شؤون القبائل المحيطة بمكة في مقابل السّماح له ولأتباعه بأداء الحجّ بما يشبه هدنة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش).
(ولكن القبائل المحيطة بمكّة تبنّت الدّعوة السّلفيّة ونشطت في الدّعوة إليها، فاحتلّ بعضهم ميناء حلي - وكان هو الحدّ الجنوبي لإمارة مكّة - فطردهم غالب منها وعاقب أهل حلي بلا رحمة، فبِيْعَ أولادهم عبيداً لأهل مكّة، وكأنّ آباءهم كانوا كفّاراً)، (ثمّ بدا وكأنّ الجنوب بأسره دان بالولاء لآل سعود، وعندما كاتب الشريف غالب أمير الدّرعيّة تبرّأ هذا من التّصرفات المنفصلة لبعض زعماء القبائل، ولكنّه رفض التّخلّي عن دعوة الجميع إلى التّوحيد.
فأرسل الشّريف غالب وفداً إلى الدّرعيّة لتجديد الاتفاق وفيهم صهره عثمان المضايفي فانحاز الأخير إلى أمراء الدّرعيّة وكان من أهمّ الأسباب: ميله للدّعوة السّلفيّة، وفي طريق العودة انفصل عثمان برجاله عن الوفد واحتلّوا العبيلاء ونشطوا للقضاء على قوة غالب، فهاجم الطائف مع أمير بيشة وأخفقت محاولة غالب استعادة الطائف وصار عثمان أميراً لها وأرسل إلى الدّرعيّة بخبر الفتح فتقدّم الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد حتى وصل على بعد 3 أيام من مكّة، فانسحب غالب إلى جدّة وقاد عبد المعين أخو غالب المباحثات لتسليم مكة).
قلت: وسيتكرّر هذا الفضل من الله بعد 130سنة بانضمام خالد لوي رحمه الله إلى جيش الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله ومشاركة خالد في فتح مكة للدّعوة السّلفيّة.
د- (في أول 1218 بايع الشريف عبد المعين وعلماء مكة الأمير سعود بن عبد العزيز، وكان لسيفه الفضل في العودة إلى منابع الدّين الأصيل، فحُطِّمَتْ وأزيلتْ كل القباب المبنيّة على المزارات والقبور، وأحْرقتْ غلايين التّبغ وآلات الموسيقى، ومنعت البدع القوليّة والعمليّة في الدّعاء والصلاة، وكان على سكّان مكّة أن يصحّحوا كثيراً من أمور دينهم ويتعلموا من أعدائهم).
(ظنّ الأمير سعود بأنّ نواة التوحيد التي غرسها في مكّة ستؤتي ثمارها دون إجبار خارجي، ثم تبيّن له خطأ ظنّه فبعد شهرين عاد غالب إلى مكّة واستأنف منها قتال صهره المضايفي وأمير بيشة، ثم استعاد ميناء الليث ولكن اضطراب الأمن قطع واردات مكّة، وعددٌ كبير من العبادلة وآل بركات والمناعمة تركوا غالباً وانضمّوا إلى عسكر عدوّه).
هـ- (في شوّال 1220هـ أمر الأمير سعود بمحاصرة مكّة بعد أن نقض أهلها العهد كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نقضت قريش عهدها الذي أبرمته في الحديبية، وفي ذي الحجّة 1220هـ طلب الشريف غالب التفاوض مع القوّة المحاصرة وكان عليه هذه المرّة أن يذعن لسيادة المنهج السّلفيّ وسيادة الدّولة السّلفيّة السّعوديّة التي عاملت أهل مكّة باللين كما فعل الرسول الكريم).
و- (عدّ السّلطان العثماني ظهور الدّعوة ومَنْع المحمل تحدّيا لسلطته فانتدب نائبه في مصر محمد علي باشا للقضاء على الدّولة السّلفيّة ففرغ محمد علي للتّنفيذ بعد قضائه على المماليك، وبدأت الحملة الأولى بقيادة طوسون بن محمد علي في رمضان 1226 فأخفقت، ثم نجحت الحملة الثانية بقيادته 1227 في احتلال مكّة، وجاء محمد علي إلى مكّة 1228 فاستقبله الشريف غالب بحفاوة وأعان طوسون على فتح الطائف وأسْر عثمان المضايفي حيث قتل في استانبول رحمه الله، [وجاءت العقوبة عاجلة] فقبض طوسون على غالب ونفاه إلى سالونيك حتى مات).
(وكان المذهب الحنبلي السّلفي منتشراً في وسط جزيرة العرب، أمّا في مكّة فأتباعه قليلون، وأمّا في المدينة فكان الرّأي العامّ متعصّباً ضدّ الحركة الإصلاحيّة). ص253-275 [وانتهت الحرب بتدمير الدّرعيّة وقتْل أو نفي علمائها وأمرائها].
ثانياً: الحياة الاجتماعية في مكة:
الجزء الثاني من مؤلف د.سنوك مخصّص للحياة الاجتماعية في مكّة ويهمّنا منه ما له علاقة بالدّين وجوداً أو عدماً؛ يقول ج2 ص358-566:
أ- (في 12 صفر تبدأ الاحتفالات في مكّة بذكرى ميمونة زوجة الرّسول الكريم، ولأنّه لا يُعْرف سبب لربطها بـ12 صفر فيمكن عَزْوها إلى أصول جاهلية).
قلت: لم يوافق المعلّق على عزوها إلى أصول جاهليّة، وعزاها إلى العهد الفاطمي، وحتى (لا يُحْرم الضيف ولا تفنى الغنم) رأيت التّوكيد على أنّ وثنيّة المقامات والمزارات والمشاهد ظهرت أوّلاً في قوم نوح صلى الله عليه وسلم لما رواه البخاري في صحيحه من تفسير ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (23) سورة نوح، قال ابن عباس: صارت أوثان قوم نوح في العرب: وُدٌّ لكلب، وسواع لهذيل، ويغوث لمراد ثم لبني غطيف، ويعوق لهمذان، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع؛ أسماء رجال صالحين فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انْصِبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا ثم عُبِدَت، انظر نصّ الأثر برقم4920 إن شئت، وعلى هذا فالأصحّ عزو الشّرك الجديد إلى القديم، ونشر الفاطميّون هذه الوثنيّة في المغرب ومصر والشّام ولكن شاركهم البويهيّون وقيل: سبقهم هارون الرّشيد ببناء وثن في النّجف باسم عليّ رضي الله عنه ولا يُعْرف من أنكر ذلك من الولاة بعده غير المتوكل رحمه الله، ولا يُعْرَف دولة قامت لإزالته غير السّعوديّة منذ العبّاسيّين لا الأيّوبيين ولا العثمانيين ولا من بينهما بل شارك كل منهم في حماية الوثنيّة حتى بعث الله دولة آل سعود لتجديد دينه.
وقيل: لَحِق الفاطميّين في هذه الموبقة صلاحُ الدّين الأيّوبي فبنى ما صار وثناً على قبر باسم الشافعي رحمه الله، أنظر تاريخ الخلفاء للسّيوطي ص385ط.العصريّة.
فسنوك على حقّ في عزْوِ الوثنيّة الجديدة للوثنية القديمة، والمعلّق على حقّ في الإشارة إلى سبب انتشارها حديثاً.
قال سنوك: (وفي14 صفر يُحْتَفَل بذكرى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
(وفي مكّة يتشاءم كثير من النّاس من يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر).
ب- (وفي12 ربيع الأول قُبِض الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولكن هذا التاريخ صار يُحْتَفَل به على أنّه ميلاد الرّسول الكريم فتُطلق المدافع ظهر اليوم الحادي عشر إعلانا لهذه المناسبة، ومع صلاة المغرب ليلة12 يَفِد أهل مكّة إلى المسجد الحرام، وتأتي النّساء بملابس العيد والحليّ والزّينة ومعهنّ كلّ أطفالهنّ بملابسهم الملوّنة المطرّزة بالذّهب والفضّة).
(وبعد انتهاء صلاة المغرب يضاء الحرم بمصابيح الزّيت أكثر من سائر الأيّام ويبقى المصلّون نصف ساعة يهنئ بعضهم بعضاً، وقريباً من باب دريبة يجلس إمام الحرم على منصة خشبية ظهره إلى الكعبة ووجهه إلى الناس فيتلوا عليهم قصّة المولد، وفي الصّدر يجلس شريف مكّة والوالي التّركي، ويطلق النّاس على يومي 12 ربيع الأول و 27 رجب اسم الأعياد تشبيهاً لهما بعيدي الفطر والأضحى، وبعد الاستماع إلى قصّة المولد يمشي رجال الحكومة ومعهم خدم الحرم بالمصابيح يقدمهم كبير المؤذّنين وفلكي المسجد ينشد المدائح النبويّة، ويدخل الحشد المولد فيقرؤون سيرة الرّسول الكريم).
(ويقوم المتصوّفة بترديد قصائد البردة والهمزية وغيرها من المدائح).
(وفي منتصف جمادى 2 تبدأ الاحتفالات بالذّكرى السّنويّة للشيخ محمود بن إبراهيم الأدهم، وهي مخصّصة للنّساء وتستمرّ ثلاثة أيّام، ويستفيد البدو والقاطنون في منطقتها من تأجير بيوتهم لزائرات الضّريح، بيت لكلّ 12 امرأة تقوم صاحبة البيت بالضّيافة أول يوم مقابل بعض الهدايا، وتتولى الزّائرات الضّيافة بعد ذلك).
ج- قلت: ظنّ الأستاذ حمد الجاسر تجاوز الله عنه أنّ هذا لا يُعْقل، وكلّ الشرك لا يحكمه العقل، ولكنّ النّاس منذ قوم نوح إلى اليوم - ومنهم أكثر المنتمين للإسلام والسّنّة - أشركوا بدعاء المخلوق الميّت أو الغائب مع الخالق الحيّ الذي لا يموت، وأرسل الله كلّ رسله في كلّ زمان ومكان وحال بأن لا يُدعى إلاّ الله وحده، وظنّ الأستاذ حمد الذي انصرف عن يقين الوحي الشّرعي إلى ظنّ التاريخ والجغرافيا لا يُطاوِل شهادة الأستاذ د.سنوك، ولو أولى الأستاذ حمد الجاسر هذا الأمر شيئاً من اهتماماته الصحفية والتاريخية والجغرافية لوجد أن من أحفاد أولئك من يحاول إحياء الوثنية اليوم باسم إحياء التراث الدّيني لولا حماية الله دينه بالدولة السّعوديّة السّلفيّة.
لنعد إلى رواية سنوك لما شهده وحقّقه بطريقة لم يُسْبَق ولم يُلحق بمثلها:
(في 17 من جمادى الآخرة يُحْتَفل بذكرى الشيخ المهدلي قريباً من مدخل مِنَى، فيؤكل الطعام ويقوم المستفيدون منه بتلاوة القصائد ويقيم أهل مكة احتفالهم لمدة يومين أو ثلاثة).
د- قال د.سنوك: (ويحتفل بالولي الهندي جوهر عند ضريحه بجبل هندى، وقريبا من باب العمرة يوجد ضريح المجنون أو المجذوب ويدعى: المحجوب، وهناك العديد من القباب لا يُعرف أسماء أصحابها ولكنّ النّاس لا يَحْرمون هؤلاء الموتى من ثواب الفاتحة).
هـ- وكان تعليق الأستاذين د.السّرياني ود.مزار مطابقا للشرع واليقين ص 369 و373 و378 و380 مثلاً، وخيراً من ظنّ الأستاذ الجاسر؛ إذْ نبّها القارئ أنّ الميّت لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وحذّرا من البدع، وبيّنا بأنّ وجود المزارات والأضرحة والخرافات سببه الجهل المطبق، وأثنيا على الدّولة السّعوديّة التي قضت عليه.
و- قال د.سنوك: (وفي11 من كل شهر يتجمّع العديد من النّاس على ضريح خديجة زوج الرسول الكريم، أمّا الثاني عشر فهو مخصّص لآمنة أم الرسول. وفي اليوم الثاني عشر من رجب يجتمع المتصوّفة السّنوسيّة في زاويتهم في سفح جبل أبي قبيس للاحتفال بالذّكرى السّنويّة لوفاة مؤسّس الطّريقة، وعلى طول الطّريق بين مكة والمدينة يوجد عديد من الزّوايا لمريدي هذه الطريقة).
(والسّابع والعشرون من رجب يحتفلون فيه بأداء العمرة الرّجبية وبالإسراء والمعراج ويُعْلن عنه بطلقات المدافع بعد ظهر يوم 26 من رجب، وعلى الطريق بين مكة وجدّة توجد شجرة يقدّسها الناس في المنطقة وتوضع عليها الخِرَق الملوّنة، ومعلوم أنّ عبادة الأشجار وتقديسها عادة جاهليّة قديمة في جزيرة العرب، وعلى الرّغم أن الرسول الكريم لعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؛ فإن [تقديس] الأضرحة والقبور انتشرت كثيراً بين المسلمين، بل إنّ قبره صار هدفاً لهذا النّوع من البدع).
(وباستثناء البقاع التي تقع تحت تأثير دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السّلفيّة فإن البدع والضلالات قد شوَّهت مفهوم العبادة بتقديس وعبادة [دعاء] الأولياء أصحاب القبور).
(وفي15 شعبان، - وبالرغم من الاعتقاد بأن أعمال الناس مكتوبة في اللوح المحفوظ منذ الأزل - يصوم الناس هذا اليوم ويقومون ليلته ليمحو الله خطاياهم).
(وفي المسجد الحرام يصلي كلّ واحد الفريضة خلف إمام مذهبه مع أنّ الاسلام لا يلزمه بذلك).
ثالثاً: التعليم في المسجد الحرام:
أ- قال د.سنوك: (عبد الغفار): (حلقات الدّروس في المسجد الحرام مفتوحة لجميع المصلّين [الذّكور] كباراً وصغاراً شيباً وشباناً دارسين ومتفرِّجين ومتبرّكين وطرق التّدريس المتّبعة ثلاثة:
1) قراءة أحد الكتب مع أحد شروحه، فيقتصر همّ المدرّس وجهده على ضبط التلاميذ قراءة النّصّ مع بيان معاني الكلمات الصّعبة، وأكثر المدرّسين يختارها.
2) قراءة نصّ الكتاب وإيراد مختلف آراء العلماء فيه بعد جمعها من مراجعها المختلفة. وممن يختار هذه الطريقة: الشيخ عبد الله الزواوي لتدريس كتاب الإقناع للشربيني.
3) جَمْع المدرس الشروح المختلفة للكتاب واستخراج مصنَّف منها ومنه، ويختار هذه الطريقة أقلّ المدرّسين ومنهم الشيخ بكري شطا في مصنّفه: إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين للمليباري في 4 مجلدات. ومع أن ما أضافه للكتاب الأصلي لا يتجاوز 1000/1 فقد نال شهرة واسعة).
ب- (تنتهي دروس الصباح قبل صلاة الظهر وتتوقف الدروس غير دروس قليلة لأحوال خاصّة، وبعد الظّهر تُدرَّس العلوم المساعدة على فَهْم العلوم الدّينيّة مثل النّحو والصّرف والعروض للمبتدئين بخاصّة. وفي العقيدة يدرس الجميع عقيدة الأشاعرة، وكثير من العلماء يعلنون أنهم أشاعرة في العقيدة، شافعية في المذهب الفقهي، قادرية في الطريقة الصّوفية، ويدرس الطالب في علم العقيدة: البعث والحساب والحياة في البرزخ وظهور الدّجّال والمهدي والمسيح وغير ذلك مما أورده الغزالي في: الدّرة النفيسة، وتستأنف الدّروس بعد العصر ومعظمها للعبادات وتفسير القرآن.
وفي الوقت بين صلاتي المغرب والعشاء متّسع لدرس واحد يحضره التّلاميذ على قناديل يحضرونها معهم وأمام المدرّس قنديل كبير لأن الإضاءة غير كافية.
وتتوقف الدّروس بعد ذلك إلا من بعض دروس في العقيدة والعلوم المساعدة يتولاها طلاب العلم ممن يَدْرسون في الصباح).
(وتُلْقى دروس في أيام الجمعة والثلاثاء عن التصوّف لكبار طلاب العلم من كتاب إحياء علوم الدّين للغزالي، وعلم التّصوّف ظهر بتأثيرات نصرانيّة وفارسية وهنديّة، ورأى معتنقوه أن العلوم الشرعية الأخرى ما هي إلا مقدّمات أوّليّة للوصول إلى محبّة الخالق، ومن هنا دخل التّصوّف المعارف الدّينيّة واحتلّ أحياناً مركز الصّدارة. وبالإضافة إلى الغزالي وُجِدَ متصوّفة آخرون فضّلوا العمل في الظّلام واجتهدوا كثيرا في إدخال كثير من الأفكار الباطنيّة من هؤلاء: ابن عربي والشعراني، ولكن الإحياء للغزالي هو الأشهر).
(ونظرة سريعة تُبَيِّن الأهمية القصوى للطرق الصّوفيّة في مكّة، فإلى جانب الزاوية السّنوسيّة في سفح أبي قبيس توجد زاوية الطريقة النقشبندية تقدّم الطعام والكساء للمريدين المعوزين، وهناك أماكن أخرى للطريقة القادرية والشاذليّة وغيرها).
(إن حلقات الذكر والإحتفالات الأسبوعية والشهريّة وتوزيع النّقود يتمّ في بيت الشيخ، أما اللقاءات اليوميّة لأفراد الطريقة فتعقد في المسجد الحرام).
(إنّ الطّرق الصّوفية غالباً تصرف طلاب العلم إلى أبعد ما تكون عن العلم).
ج- قلت: أجاد وأفاد المعلقان أثابهما الله في التحذير من خطر التّصوّف وفساده ص 528 و534 و536.
رابعاً: من الخرافات في مكّة:
(أنّ هناك جبل مقدّس يزوره معظم الحجّاج هو جبل أبي قبيس ترجع قدسيته إلى أيام الجاهليّة، وفيه مسجد صغير يشبه لون الصّخر فيه الحجر الأسود فتقول الأسطورة أن الحجر الأسود اقتلع منه أو أن الحجر الأسود حُفِظ فيه حين الفيضان، ويطلب من الحاج تقبيله والصلاة فيه، وفي زاوية أخرى في هذا المسجد يقولون: وَقَفَ إبراهيم الخليل بعد إنتهائه من بناء الكعبة ليؤذّن في الناس بالحجّ، وفي بقعة مغطّاة بالرّمل الأبيض يقف الحجّاج للدّعاء ثم يصرخون بأسماء أعزّ النّاس عليهم في بلادهم ليتمكّنوا من الحجّ في المستقبل، وفي أعلى الجبل حفرة لحفظ الماء يزورها النّاس ظنّاً منهم أنها قبر آدم، ثمّ قيل لهم: أنّها المكان الذي استقرّت عليه سفينة نوح، ثم صارت مكاناً لخرافة أنّ من أكل عندها رأس خروف مشويّ فلن يصيبه الصّداع طول حياته).
(ويروون عن جبل النّور أنّه حذّر الرسولَ من عدوّه القريب منه).
(وفي هذا الجبل - مقابل بعض المال - تُجْرى عملية لتطهير القلب تذكارا لما ورد في السّيرة من شقّ صدر النبي؛ فيوضع قليل من التمر على صدر الحاج وفوقه رغيف ثمّ يُقْطع الرّغيف نصفين مع التّمتمة بسم الله الرحمن الرحيم).
قلت: وفي هذا الكتاب تفاصيل دقيقة عن الحياة السّياسية والاجتماعيّة في مكّة لا يهمّني ذكرها، وللرّاغب في معرفتها البحث عنها.
والحمد لله الذي أزال السّيّئات عن بلده الحرام وما حوله بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه وبسيوف آل سعود ونسلهم أسكنهم الله الفردوس من الجنّة جميعاً، وأوزعنا شكر نعمته، وختم لنا بالصالحات من الأعمال وبمغفرته ورحمته وإحسانه.