سبق وأن نقلت عن الصحفي الأمريكي البارز توماس فريدمان في مقالة لي في صحيفة الجزيرة الغراء قوله: «تساءلت لوهلة: لماذا لم تحدث انتفاضة ثالثة؟ أي لماذا لم تحدث انتفاضة فلسطينية أخرى في الضفة الغربية؟
هناك تفسيرات عدة من الجانب الفلسطيني: إنهم فقراء للغاية، منقسمون للغاية، منهكون للغاية. أو أنهم أدركوا في نهاية الأمر أن هذه الانتفاضات تضرهم أكثر مما تنفعهم، لاسيما الانتفاضة الثانية. لكن بحكم وجودي هنا، فمن الواضح أن الانتفاضة الثالثة في الطريق. وهي التي تخشاها إسرائيل دائماً أكثر، ليس انتفاضة بالحجارة و(الانتحاريين) بل انتفاضة تدفعها المقاومة غير العنيفة والمقاطعة الاقتصادية». لكن فريدمان هنا يخالف السلطة الفلسطينية ويعتبر أن هذا الدور ليس منوطاً بها ولا بالشعب الفلسطيني، حيث كتب يقول: «لكن هذه الانتفاضة الثالثة لا يقودها حقاً الفلسطينيون في رام الله، بل الاتحاد الأوروبي في بروكسل وبعض معارضي احتلال إسرائيل للضفة الغربية في مختلف أنحاء العالم. وبغض النظر عن الأصل فقد أصبحت تلك المعارضة قوة للفلسطينيين في مفاوضاتهم مع الإسرائيليين»... هذا كلام جميل ولكن أظن مع بعض المحللين الإستراتيجين أنه في غياب تجذير للمصالحة الفلسطينية فلن يبقى من حل حقيقي للفلسطينيين إلا حل السلطة الفلسطينية.. ففي دراسة أصدرها «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية»، بالتعاون مع»مشروع الشرق الأوسط للولايات المتحدة»، و»المركز النرويجي لمصادر بناء السلام»، وقد شارك في إجرائها العشرات من الخبراء السياسيين والأكادميين، فإن «معظم الفلسطينيين يعتقدون أن إسرائيل تنظر إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها تلعب دورين مهمين: تعفي سلطة الاحتلال من مسؤولية رعاية أولئك الذين يعيشون في ظل الاحتلال، وتقي إسرائيل التي ترغب في حماية هويتها اليهودية من التهديد الديموغرافي المتجسد في واقع الدولة الواحدة». وأضافت الدراسة، التي حملت عنوان «مبادرة اليوم التالي»، بمعنى اليوم التالي لانهيار السلطة الفلسطينية، أنه رغم ذلك فإن «إسرائيل قد تلجأ إلى فرض عقوبات من شأنها أن تؤدي، عن قصد أو عن غير قصد، إلى انهيار السلطة الفلسطينية». فنتنياهو بل ومنذ دافيد بن غوريون فإن الإسرائليين لا يرون في الفلسطينيين شركاء حقيقيين في السلم بل يجب التخلص منهم أو على الأقل تهميشهم وتطويقهم....
لقد خاض الفلسطينيون الآلاف بل الملايين من ساعات التفاوض مع الإسرائيليين، كما وقعوا المئات من مذكرات التفاهم ومن الاتفاقيات للوصول إلى حل يمكنهم من إقامة دولة مستقلة وذات سيادة. كما أن شرعية قضيتهم الدولية رسخت في قرارات دولية عديدة من ضمنها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (3236) و(2649) و(455.65) والتي أكدت جميعها على حق الفلسطينيين في تقرير المصير، كما أن القرار رقم 2672 يؤكد على أن مبدأ احترام حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف هو المعبر الوحيد لتحقيق سلام شامل وعادل في منطقة الشرق الأوسط بأكملها... ثم إن قرار محكمة العدل الدولية بلاهاي الهولندية في فتواها الاستشارية لسنة2004 والمتعلقة بتشييد جدار الفصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقر بعدم قانونية تقويض حق الفلسطينيين في تقرير المصير. ولا ننس أن قرار مجلس الأمن التاريخي رقم 242 والذي أكد على عدم أحقية الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة يعني أنه لا أحقية لإسرائيل بأي شبر من الأراضي التي احتلتها عام 1967. ولكن مع ذلك فإن السلطة الفلسطينية تجد نفسها اليوم مع حلم واقع قيام دولة مبتورة أي ذات سيادة محتملة على 22 في المائة فقط من أرض فلسطين التاريخية، وهي مساحة صغيرة جدا وتتقلص رويدا رويدا بفعل استراتيجية محكمة يتبعها القادة الإسرائيليون مجسدة في المستوطنات والمصادرات والمناطق العسكرية الإسرائيلية المتزايدة... وهاته، وأيم الله، كارثة عظمى ليس بعدها كارثة...
والرئيس الفلسطيني يبحث اليوم عن قرار يطالب بتحديد موعد نهائي لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة... الطريق صعب وشائك بسبب المساندة الأمريكية لإسرائيل وهي الحامية للخطوط الحمراء التي ترسمها لها... فليكن ذلك!!! لأن الفلسطينيين يجب أن يعوا أن النظام الدولي يتغير وأن ميكانزماته المختلفة تتطلب منهم تحركا سريعا مستعينين بالصحوة الاعترافية الجديدة والتي كانت بطلها البرلمانات الأوروبية، بمعنى ممثلي الشعوب الأوروبية الذين يصوغون القوانين التشريعية ويراقبون حكومات بلدانهم باسم الشرعية الانتخابية الديمقراطية التي أوصلتهم إلى تلكم الكراسي... فالسويد اعترفت بفلسطين (في أكتوبر، تشرين الأول) برلمانا وحكومة بمعنى أنه اعتراف نافذ وهو ما بعث روحا جديدة للقضية الفلسطينية... وبرلمانات إسبانيا وبريطانيا وأيرلندا وفرنسا أجرت تصويتا دعمت فيه قرارات (وهي غير ملزمة) لصالح الاعتراف بفلسطين، ودول كالبرتغال وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وأيرلندا قد تقوم بما قامت به السويد وهي مسألة وقت فقط... وأحيي هنا برلمانيين مقتدرين من أصول عربية حركوا المياه الراكدة التي حماها اللوبي اليهودي منذ عقود، ونادوا في أروقة البرلمانات وفي مختلف المناسبات بضرورة تغيير المنكر ورد الحقوق إلى شعب انتهكت حرماته ومقدساته وهضمت أدنى حقوقه الإنسانية، فوجدوا آذانا صاغية حتى من الأحزاب اليمينية والمحافظة التي صوتت لصالح القضية الفلسطينية.
الصحوة الأوروبية والعالمية (135 دولة تعترف بفلسطين) لا يجب أن تثبط الفلسطينيين اليوم في السير بعيدا بقضيتهم المشروعة... والضبابية المحيطة اليوم في السياسة الخارجية الأمريكية تجعل حتى أقرب الحلفاء لا يعتمدون عليها لأنه يصعب أكثر فأكثر التنبؤ بما يمكن أن تقوم به أمريكا، فهي أقل قدرة على الوفاء بالتزاماتها وترغب دائما أن تتربع على كرسي دركي العالم المتزن والنافذ ولكن لا تريد دفع ثمن ذلك... ونتذكر جميعا هنا أن تحرير دولة الكويت كان تمويلها من قبل الكويت ودول أخرى ولم تمول من الخزينة الأمريكية... ومتلازمة فيتنام جعلت من أمريكا آنذاك تنأى بنفسها عن الذهاب إلى بغداد في ذلك الوقت سيرا على منهج آيزنهاور مرورا بنيكسون وحتى الرئيس أوباما... والاستثناء الوحيد كان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فلأول مرة بعد ضرب اليابانيين لبير هاربر، تصاب أمريكا بالإرهاب الأعمى في عقر دارها مما جعل الرئيس بوش مؤطرا من المحافظين الجدد يخوض حربا شرسة أولا على أفغانستان ثم على العراق ولكن في حالة العراق كان التدخل العسكري دون تفويض من الأمم المتحدة؛ ونتذكر السجال الجيو قانوني الحاد بين كولين باول وزير خارجية أمريكا ودومينيك دو فيلبان، وزير خارجية فرنسا داخل الأمم المتحدة فانهزمت أمريكا في التصويت في مقابل أوروبا، الدولة العجوز، كما وصفها آنذاك ديك تشيني الذي مل في دوران مكوكي المعارضة الشرسة من دول أوروبا الغربية وعلى رأسها فرنسا... فأولى أن نعتمد على أنفسنا ولكن دون استفزاز موجع للولايات المتحدة الأمريكية كما قال واحد من عمالقة المختصين في العلاقات الدولية البروفسور إيمانويل والرشتاين في محاضرة أخيرة له؛ فالعالم يتغير وأوراق لعب أمريكا في ضبابية مستمرة والنظام العالمي بدأت تتغير معالمه رويدا رويدا وليس هو على ثبات يمكن اللاعبين الآخرين من أخذ القرارات الملائمة كما كان يفعل في السابق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.