الموقف الشجاع الذي أظهره الشيخ أحمد الغامدي حول ماهية حجاب المرأة الشرعي في الإسلام، لم يكن جديداً؛ فقد قال به ، ورجّحه، ودلّل عليه مُحدث العصر الشيخ الألباني - رحمه الله - في كتابه (جلباب المرأة المسلمة)؛ الفرق فقط أنّ الشيخ الألباني ليس سعودياً، في حين أنّ الشيخ الغامدي كان سعودياً، وسبق أن تسنم منصباً رفيعاً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الغربية؛ أما الدليل، والراجح من أقوال الفقهاء، فهو مع الشيخ الغامدي وليس مع أضداده.
وعلى أية حال فالقضية في نهاية الأمر من أشهر المسائل الخلافية منذ عصر الصحابة والتابعين؛ فهناك من أجاز كشف الوجه واكتفى بتغطية الشعر، وهناك من يرى أنّ الحجاب يشمل غطاء الوجه مع الشعر، وأغلب الفقهاء المعاصرين، يرون أنه التحنك وكشف الوجه، وغطاء شعر المرأة. ولا أعتقد أنّ ذلك خافٍ على صغار طلبة العلم، فما بالك بكبرائهم ؛ غير أنّ النقطة الجوهرية هنا، وهذه الضجة (المناوئة)، التي واكبت هذا الموقف الشجاع، من الشيخ الغامدي، يشير إلى مشكلة عويصة نعاني منها، ويعاني منها أوساط الفقهاء في المملكة ، ومؤداها أنّ بعض علمائنا - هداهم الله - يرون أنهم هم (كأشخاص) من يجب على الناس اتباعهم وما يقولون، وليس اتباع الدليل، والتسامح مع ما جرى فيه الاختلاف بين الفقهاء؛ وهذه من أولويات التسامح في القضايا الخلافية؛ وعندما يعتبر هذا الشيخ، أو ذلك المطوع، أنّ ما يقوله هو الصحيح، وأنّ اجتهادات الآخرين وآراءهم، هي الخطأ، كما قابل بعضهم رأي الشيخ الغامدي، فهذا يعني أنّ التسامح، وتَقبُل الخلاف بصدر رحب، والتعامل في هذه القضايا بسعة أفق وتفهُّم، مازلنا، رغم ما جناه التشدد والمتشددون علينا من مصائب، نراوح في مكاننا، ولم نستوعب بعد معنى التسامح، ولم ندرك أننا إذا ألغينا القضايا الخلافية، واعتبرنا أنّ ما يُعول عليه هو ما يقوله فلان بعينه، أو ما يرجحه عالم لأسباب مكانية، وليست موضوعية، فهذه هي الكهنوتية التي حرّمها الدين، وكانت قد وقعت فيها الأديان التي قبل الإسلام.
الدين لا علاقة له بالجغرافيا، ولا وبهذا الفقيه أو ذاك، والمجتهد لا يهم إلاّ قدراته الاستنباطية، وليس من يكون، لذلك قال السلف : (العالم يستدل له لا يستدل به)؛ وعندما يضعف الدليل، أو أنّ هناك دليلاً آخر أقوى منه، فالأمر فيه سعة؛ فلماذا التضييق على الناس، والتسفيه بآراء فقهية لها اعتبار قوي وأدلة صحيحة يستدل أصحابها بها.
قضية الحجاب التي أثيرت مؤخراً، تحمل في ما وراءها في تقديري منهجاً متعصباً غاية التعصب لا يرى الحق إلا في ما يقوله هو، ولا الصحيح إلا في ما يراه صحيحاً؛ حتى في المسائل الشكلية كالحجاب للنساء، وإعفاء اللحية للرجال، التي هي - حتى وإن صحّت - من المكملات وليست من مسائل العقيدة، التي أرسل الله بها الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لتصحيحها؛ وهنا لب المشكلة، فهل يقول قائل مهما بلغ تدني علمه واطلاعه، وضيق أفقه، أنّ ماهية حجاب المرأة، أو الغناء - مثلاً - أو إعفاء اللحية للرجال من قضايا الإسلام الأساسية التي لا تقبل الاختلاف مطلقاً، حتى يثوروا على الشيخ الغامدي هذه الثورة، رغم أنه متبع وليس مبتدعاً، ورغم أن أدلته أقوى، ومن كل الأوجه، من أدلتهم؟
الخلاف رحمة، وعندما ترى طالب العلم يجنح إلى التشدد والتعصب والاحتياط، ويبني عليها آراءه، فهذا دليل على الضعف، ولم يكن قط دليلاً على غزارة العلم وسعة الاطلاع وعلى ذلك فقس.
إلى اللقاء.