) كان يحاورني في أكثر من شأن، وشعرت لأول وهلة أن لسانه ربما كان به خلل، فلا هو يقوى على الكلام، ولا اللسان مسيّر لما يريد. وظننت أن موضوع الحديث ربما كان السبب في معاناته مع الحياة والأحياء، فقررت أن أغيرّ دفة الحديث عسى أن يجد في السياق الجديد ما يعيد إليه الألفة المفقودة مع الكلام!
**
) قلت له عبر ابتسامة قصيرة:
) هل تعلم أن القرن الحادي والعشرين قد حلّ منذ أربعة عشر حولاً أو يزيد! فردّ وقد استعاد لسانه صوابه:
هذا أمر يهمك أنت وسواك، أما أنا، فما شأني به، حل أم رحل!
) قلت: .. يفترض أن يعنينا جميعاً أنت وأنا والناسَ أجمعين!، لأنه نقلة ثقيلة تعبرها البشرية على صراط الزمن .. نحو غد جديد، والكل يرجو أن يكون أسعد حالاً وأثرى حصاداً!
**
) قال: مرة أخرى، هذا أمر لا يهمني في شيء.. ولا يعني لي شيئاً!
) قلت: بعيداً عن سفسطة القول وتكراره: دعني أسألك سؤالاً مباشراً: ما الذي يجعلك تستقبل القرن الجديد بهذه الشحنة من الغيظ والشك والتشاؤم؟!
) قال مستنكراً: ماذا عساني أن أقول شيئاً يخالف ما قلت؟ أنه لا فرق عندي أن يكون (قرنك) الجديد الحادي والعشرين أو الحادي والثلاثين بعد الألفين، فكل الأيام وكل الشهور وكل السنين وكل القرون عندي سواء! أمسها ويومها وغدها عندي سواء!
**
) قلت: أنت إذن متشائم (حتى الثمالة)، موغل في التشاؤم! وأنت بهذا القول تترجم (غيبوبة الإحساس) مما قد يوحي بأنك والغيبوبة سواء!
) قال: سمني بما شئت.. وانعتني بما شئت، واسخر مني كما تريد، لكن دعني أسألك أنت: كيف تحلم بغد.. لا تدري أن كنت ستبلغه، أم ستسبقه إلى النهاية التي يبلغها كل البشر؟!
) ثم كيف تأْسَي على أمسٍ فات ركبُه ورحل، وسلمك مفاتيح الريح تقبضها فلا تلقف منها شيئاً! وإذا كان أمسك ضائعاً، وغدك غامضاً، فهل يستحق يومك الراهن ومضة عين.. أو رعشة إحساس؟!
* *
) قلت: لا زلت أظن أنك مسرف في تشاؤمك، متطرف في غيبوبة إحساسك، ولو كان التشاؤم رجلاً لتبرأ منك قبل أن تلعنه! وأنكَر عليك ما قلت؟!
) قال: أفهم منك أنك متفائل بقدر تشاؤمي؟
) قلت: لست متطرفاً في تفاؤلي.. ولا مسرفاً في ظني الحسن، بل أعشق الوسطية في أمور العقل والنفس وتكاليف الحياة! الله خلقني وخلقك لنعبدَه لا نشرك به شيئاً، والمرء السويّ منا مطالب بأن يعمل لحياته كأنه يعيش أبداًً، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، والحياة.. درب رحب للأمل.. والحلم.. والعمل المبدع، رغم غموض نهايتها! وما دام في جسدي نبض.. وفي عقلي وقود حياة.. فسأُحْيِي يومي بالعبادة والعمل.. وأترقب قدوم الغد لأعيدَ الكرّة حتى يختار الله لي ما يريد!
* *
) قال: أفبهذا تستقبل (قرنك) الحادي والعشرين؟
) قلت: نعم.. ورغم أنني قد دخلت هذا القرن مُثْقَلاً بأحلامي وآلامي وآمالي.. إلا أن لي وللإنسانية مع الله وعداً، ووعده الحق، وأرجو أن يكون هذا القرنُ أكثرَ أمناً.. وأندى رغداً.. وأكثر حريةً، وأثْرى صحة، وأنقى نفوساً من أوضار الجهل وذل الفقر وشأفة المرض!
* *
) هنا: أدركت أننا (هو وأنا) قد أشبعنا موقفينا طرحاً، مع استمرار الاختلاف المريع في النتائج، فقلت له وأنا أبسط يدي إليه مودَّعاً، أرجو الله أن يعيد إليك نفسك التائهة بين سحب التشاؤم.. لتبدأ مع الحياة مشواراً جدياً من الإيمان والحب والأمل تطلعاً إلى غد أفضل!
* *
) قال: وهو يودعني بابتسامة مقتضبة كشمس الشتاء..:
أتمنَّى لو (استنسخت) من فؤادك فؤاداً، ومن وجدانك وجداناً، ومن تفاؤلك تفاؤلاً: فلا أرى من الحياة.. إلاّ كل جميل!
) قلت: مشوار الحياة يا صديقي، وإن طال قصير.. فلماذا نفسده بفتنة التشاؤم؟ لماذا ندع (الجرح) يئد حكمنا على الناس والحياة.. ويطفئ إشراقه الحب في أعماقنا؟!