لعل الأحداث الأخيرة في مدينة فيرغسون وغيرها من المدن والولايات الأمريكية تعيد إلى سطح الوعي العالمي النظام العدلي الأمريكي، وهو نظام ارتضاه الأمريكان على كل حال وهذا شأنهم، لكن ما يثير الاستغراب ادعاء أنه النظام الأمثل وإن بطريقة غير مباشرة، عبر التدخل والتعليق على نظم قضائية في أماكن مختلفة من العالم. ومعلوم أن النظام القضائي في أمريكا وإصدار الأحكام القضائية على الجناة ومخالفي القانون يعتمد على ما يسمّى بالمحلِّفين،...
... وهم مواطنون يتم اختيارهم من قِبل المحكمة ويتم عزلهم لمدة زمنية عن وسائل الإعلام حتى لا يتأثروا بما تتداوله في القضية محل النظر، ثم يطلب منهم القاضي قبل النطق بالحكم التقرير إن كان المتهم مذنباً أم لا. نظام غريب، وجهة غرابته تأتي من حيث كون أولئك المحلِّفين غير متخصصين ولا يملكون أرضية عدلية وقانونية يقفون عليها في الحكم على المتهم، لكن كما قلت، فإن هذا النظام تأسس عن قناعة وتراكم اجتماعي وثقافي مع نشوء الولايات المتحدة أو العالم الجديد كما كان يسمّى، وهو الكيان الذي قام بسواعد مهاجرين أوروبيين وبريطانيين ممن أرادوا تأسيس كيان جديد ومختلف عما تركوه في بلدانهم الأصلية.
كتب اريك فير في صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بعنوان (ما فعلته في أبو غريب لا يغتفر) ونشرته بالعربية صحيفة الشرق الأوسط في الثاني عشر من هذا الشهر. يتحدث هذا الضابط المتقاعد والذي أصبح أستاذاً في جامعة ليهاي!! عن تدريسه مادة (الكتابة عن الحرب) يتحدث برومانسية عن مشاعر مختلطة من الندم والخجل لإسهامه في عمليات التعذيب في سجن أبو غريب في بغداد عام 2004، وامتنانه لهذه الجامعة لاستعانتها به لتدريس هذه المادة كونه يملك خبرة عملية في الحرب وما يتصل بها كعسكري سابق.
يقول هذا الضابط المتقاعد، (المحاضر) حالياً، ((لقد أصدر مجلس الشيوخ مؤخراً تقريره عن التعذيب الذي أذهل محتواه الكثيرين، حيث تضمن روايات عن الإغراق الوهمي والحرمان من النوم الذي وصل لأسبوع، والإجراء المرعب (بإعادة الوسائل إلى الجسم عن طريق المستقيم)، ولا يمثل هذا مفاجأة بالنسبة لي، فأنا أؤكد لكم أن هناك المزيد من الأمور المستورة!!)).
ويسترسل هذا المحارب السابق في الحديث عن مشاعر الندم والخجل، حين يسمع طلابه ينادونه بالأستاذ غير مدركين حقيقة ( إنجازاته ) في العراق وفي سجن أبو غريب تحديداً، ذلك أنهم كانوا تلاميذ في المرحلة المتوسطة حينها، مما يخفف عليه مشاعره تلك كما يقول. ثم كتب يقول :
(( لم يقرأ أكثر الأمريكيين التقرير ولن يفعلوا، لكنه سيظل شاهداً دائماً على حال بلادنا يوماً ما، ربما سيطلب أحد الأساتذة في الجامعة مستقبلاً من طلبته القراءة عن الأمور التي فعلتها هذه الدولة ( أمريكا ) في بدايات القرن الحادي والعشرين، وسيعلم الطلبة أن هذا البلد ليس دائماً مصدراً للفخر والزهو )). ومن الجدير بالنقل هنا قوله إنه لا يمكنه التظاهر بنسف ما فعله في سجن أبو غريب من المشاركة في تعذيب السجناء العراقيين وراء ظهره ونسيانه، وأنه كتب مقالات في عدة صحف وأجرى عدة مقابلات متلفزة، وتحدث إلى منظمات مثل العفو الدولية واعترف بكل شيء إلى محام من وزارة العدل الأمريكية، ومحققين في الجيش.
كل هذا يبدو جميلاً وفائضاً بالمشاعر المرهفة والحس الإنساني، هكذا يبدو لنا، لكن ثم ماذا ؟، هل قدم هذا العسكري إلى المحاكمة بعد كل هذه الاعترافات والندم، هل عادت إلى أولئك المساجين العراقيين كراماتهم وتم تعويضهم عما لحق بهم من جراح وأضرار وندوب جسمانية وعاهات بدنية ونفسية ؟، أو هل تم تعويض من فارق الحياة منهم كذلك ؟.
سهل هو الحديث لمن أمن العقاب بل ووجد وظيفة مريحة له وهي التدريس الجامعي، بعد الخدمة العسكرية والحرب والاحتلال، حديث ينضح رومنسية ورقة شعور بعد خراب مالطا كما يقول المثل. فلا ندري أهي السذاجة التي تطبع نفسيات كثير من الأمريكيين نتاج البيئة الأمريكية التي تتسم بالسطحية في فهم العالم الخارجي، أم هي ثقافة ( الفاست فود ) والتقنية التي يمكن من خلال ضغط زر تغيير كل شيء ونسيانه حتى لو كان يتعلق بحقوق الغير أو ارتكاب الجرم عليهم. ألم تكتب امرأة أمريكية رسائل إلى خارج السجن الذي تقبع فيه تعرب فيها عن ندمها الشديد على قتل طفليها الصغيرين بإغراقهما في بحيرة بترك السيارة التي تقلهما تتدحرج حتى قاعها وهم نائمون بكل طهر وبراءة، لتأتيها ردود تعاطف من عديد من الأفراد، فأي سذاجة في إجرام بعد ذلك ؟ !.
لا يعني هذا أننا نعيش عصرنا الذهبي العربي والإسلامي، فلدينا من التناحر والحروب ما يندى له الجبين. إنما أيضاً لا يعني هذا أن من يدّعي المدنية أياً كان بمفازة من الجور، طابت أوقاتكم.