عموما، السلبيات في كل شيء يسهل عدها، بعكس الإيجابيات. الإنسان مبرمج على الاستياء والتعبير عنه بحماس أكبر. لو تبادلت مع شخص آخر عشر مقابلات وكان في تسع منها بشوشا وفي مرة واحدة فقط متجهما لسبب قد تجهله، فالأرجح أن تصنفه بناء على تلك المرة الواحدة. لو تناولت في مطعم عشر وجبات وكانت تسع منها جيدة وواحدة فاسدة، فالأرجح أن تنصح الآخرين بالابتعاد عن هذا المطعم.
السلبيات التي تخللت وتلت احتجاجات ما سمي إعلاميا «الربيع العربي» كثيرة جداً، ولكن لا بد من وجود إيجابيات قد تكون كثيرة أيضا، إن لم يكن للحاضر المتحقق فللمستقبل المقبل. من السلبيات المتحققة كان اختطاف إمكانات التغيير الإصلاحي التوافقي، لصالح العنف الفوضوي الملتحف بعباءات دينية ومذهبية متعددة، وكان هذا الاختطاف هو المفرخ لكل السلبيات الأخرى. هذا الاختطاف لم يكن ليحدث لولا الاستعداد التراكمي لإمكانية وسهولة استغفال الجماهير العربية باستعمال العاطفة الدينية والمذهبية. اللافت في السهولة التي تم بها هذا الاختطاف واضح في انسياق الجماهير كالأغنام خلف تنظيمات سرية انتفاعية لم تشارك أصلا في الأحداث الأولى، وإنما اغتنمت فرصة اللحظة التاريخية وسذاجة الربط الشعبي بين مفاهيم المظاهر الاجتماعية مع الشعارات الموحية تراثيا بالصلاح والتقوى والنزاهة. بهذه الطريقة نقلت الجماهير مسؤولية التغيير من أنظمة ظالمة إلى منظمات ظلامية. الأنظمة التي تم التخلص منها كانت تتصرف بشرعية القانون المفصل على مقاييس مصالحها، لكن المنظمات الظلامية أصبحت تمارس قطع الرؤوس والاغتيال والتفجير على الهوية المذهبية، أو بتعبير أدق على الهوية الحزبية التنظيمية.
خلاصة ما حدث أثناء وبعد تلك الاحتجاجات هي أن فرض الطاعة بالقبضة الأمنية في أقبية الاستجواب حل محله الترويع الفوضوي والقتل العشوائي وحز الرؤوس بالسكاكين. هكذا انتهى فرض الصمت والطاعة بهيبة النظام والدولة وحل محله عصر الفوضى وسفك الدماء بلا نظام وبلا دولة وبلا تحديد مسؤوليات. أصبحت الشكوى من سوء الأحوال توجه إلى عناوين وهمية لا يعرف أحد من أين أتت وما هي مصادر قوتها ولماذا تستعصي على القوى الداخلية والخارجية التي تصنفها إعلاميا كحركات إرهابية تهدد العالم بكامله وتدعي محاربته.
من نتائج هذه الفوضى المروعة نسيان المواطن لكل طموحاته ومطالبه القديمة في الكرامة والحقوق الأساسية والعدالة النسبية والتنمية، لتنكمش في التشبث بالحياة مع من تبقى من أطفاله العراة الجياع في مخيمات الحدود الصحراوية أو تحت جدران الخرائب في أطلال المدن والقرى المهدمة، أو كمتسولين يتخطفهم تجار البغاء في العواصم المجاورة.
اختزال تصنيف ومجريات أحداث الربيع العربي على مصر وتونس واليمن لا يفي بكامل الحدث التاريخي لما حصل. الأحداث في سوريا والعراق واليمن بشقيه والسودان، وإن تكن بدأت قبل الحصول على تسمية الربيع العربي، يجب أن تدخل ضمن نفس التصنيف والمسمى. المسببات واحدة، هي محاولات الشعوب في الحصول على تغيير إيجابي بالضغط الجماهيري على حكومات فاسدة وأنظمة قمعية. النتائج متشابهة أيضا تتمثل في اختطاف شرعية واستحقاق التغيير الإيجابي من أيدي التآلفات الوطنية المؤمنة بالديمقراطية والتعايش لصالح منظمات مذهبية سرية.
إذا السلبيات أصبحت بالصوت والصورة والمعايشة واضحة وكارثية ومنذرة بالاستمرار لسنوات طويلة. حتى الآن ومن داخل هذا النفق المظلم يأتي السؤال، هل من إيجابيات يستطيع المدقق العثور عليها ولو بطريقة البحث عن خرزات المسبحة التي انقطع خيطها وتناثرت بين الأنقاض. حسب رأيي المتواضع نعم، يوجد إيجابيات تحققت بالفعل وأخرى سوف تتحقق بفعل الضرورة التاريخية.
الإيجابية الأولى التي تحققت بالفعل هي تبلور القناعة عند جماهير الدول التي تم تصل إليها الفوضى، بأن الطريق نحو الإصلاح يجب ألا يتقاطع ولا في نقطة واحدة مع طريق الفوضى المتوحش وسقوط هيبة الدولة والنظام.
الإيجابية الثانية بدأت تتحقق في تونس بشكل مطمئن، وتدريجيا في مصر بخطوات أبطأ وأقل وضوحا ولكنها مطمئنة، ربما لأن أعداء مصر أشرس كثيرا من أعداء تونس. بدأت الجماهير تدرك في مصر وتونس عبثية المراهنة على الإسلام السياسي ورموزه من الدعاة المسيسين. تثبتت الجماهير من أن أكثرهم مجرد ذئاب دنيوية في مسوح رهبان.
الإيجابية الثالثة هي أن أعداداً غير قليلة من الأتباع المصدقين سابقا لحد السذاجة بدأوا يعيدون النظر في مصداقية رموزهم القديمة بعد انكشاف الحقائق ومن خلال الممارسات السلطوية الإقصائية على أرض الواقع.
الإيجابية الرابعة هي أن أعداداً غير قليلة من النخب الحقوقية المدنية التي ما زالت تحتفظ في دواخلها بترسبات إقصائية على طريقة من ليس معي فهو ضدي انكشف لها هوانها وهزالها، مما أحدث تغيراً إيجابياً في فهم الواقع فبدأت الجباه المرفوعة سابقا نحو السماء تنظر إلى الأرض وتدرك الحاجة إلى العمل الوطني الجماعي لتفادي الضياع النهائي.
الإيجابية الأخيرة والأهم حسب رأيي المتواضع تتمثل في أن أنظمة الحكم العربية قاطبة أدركت ضغوط اللحظة التاريخية، الداخلية والخارجية. كانت الحكومة المغربية من أولى الحكومات التي تعاملت مبكرا بناء على ذلك، والخطوات سوف تتسارع في كل مكان إن شاء الله.