التي في الصدور وتعمى، هي القلوب، وهذا الأمر ليس من قولي، إنما هو من قول الله تعالى، ففي سورة الحج يقول عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ، وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فالقلوب تبصر وتعمى كما تبصر وتعمى العيون، هذا ما دلت عليه هذه الآية الكريمة العظيمة، والفرق بينهما أن عمى العيون مع احتساب من أصيب به ؛ يدخل الجنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إِنَّ اَللَّهَ قَاْلَ: إِذَاْ اَبْتَلَيْتُ عَبْدِىْ بِحَبِيْبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَاْ اَلْجَنَّةَ) وعمى القلب يدخل النار، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} ولذلك يقول مجاهد -رحمه الله-: لكل عين -أي إنسان- أربع أعين، عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه، فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه، فلم ينفعه نظره شيئا.
فعمى القلوب، أمر ثابت في كتاب الله عز وجل، ومن أنكره فإنه على خطر عظيم، ولا شك أن لهذا العمى أسباب، من أخطرها وأضرها: التعرض للفتن، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
ومن الفتن الخطيرة، في هذا الزمان، التي تسببت في عمى قلوب البعض، وخاصة فئة من شبابنا: السفر إلى بعض الدول، ومواطن الصراع بقصد الجهاد ونصرة المسلمين، وهي نتيجة لفتن كثيرة، تعرضوا لها حتى صارت قلوبهم لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما اشربت من هوى. وعلى سبيل المثال لا الحصر -لأن الفتن كثيرة وخطيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ)- الفتن التي نكتت في قلوب بعض شبابنا، حتى صارت كالكوز مجخيا، أي كالكوب المقلوب الذي لا يتأثر مما سكب فيه: فتنة المعاصي، سواء كانت لله عز وجل، أو لولي الأمر الذي أمر الله بطاعته، أو للوالدين الذين أمر الله ببرهما وعدم عقوقهما، فما ذهب من ذهب إلا بعد وقوعه في هذه الفتنة الخطيرة.
ومنها فتنة الشهوة، سواء كانت رئاسة أو منصب أو وظيفة أو مكانة أو غير ذلك، ولا أدل من تورط من ذهبوا بهذه الشهوة من قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الأعرابي فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟.. فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
ومن الفتن التي أعمت قلوب بعض شبابنا: فتنة الشبهة، وهي أخطر الفتن على الفرد والمجتمع، لأنها تفرق الأمة، وتمزق الوحدة، وذلك ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة، حيث قال: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة)، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنا عليه وأصحابي)، وفي رواية: (هم الجماعة) فأتحدى شاباً واحداً سافر لأي بلد من البلدان، التي فيها الصراع، بحجة نصرة الإسلام والمسلمين، وهو لا ينتمي لجماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب، فما بايع بعضهم خارج هذه البلاد، وبعنقه بيعة إلا بسبب هذه الفتنة: فتنة الشبهات.
ومن الفتن التي تسببت في عمى قلوب بعض شبابنا: فتنة العلم، حيث ظنوا أنهم أعلم من علماء كبار شابت رؤوسهم ولحاهم، في سبيل طلب العلم وتعليمه، فتركوا فتاواهم وعملوا بفتاوى عميان مثلهم، ومن جعل الغراب له دليلا يمر به على جيف الكلاب، ولو سلمت قلوبهم من العمى لكفتهم قصة موسى عليه السلام مع الخضر، عندما ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. ومن الفتن التي أعمت قلوبهم وقلوب مشائخهم، فتنة الشهوة الخفية، حب الرئاسة والشهرة، يقول سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت زهداً في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى. وما حدث في عهد قريب، في بعض الدول من نزاع على السلطة، التي بنيت على ظهور بعض شبابنا، إلا دليل واضح على خطر هذه الفتنة. فهذه الفتن وغيرها، تعمي قلب من يتعرض لها، ولا يفطن لخطرها، ويتجاهل ضررها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من استشرفها تستشرفه) وإذا عمي القلب أوقع صاحبه بما لا تحمد عقباه، وورطه بما فيه شقاؤه وتعاسته في دنياه وأخراه، والواقع أكبر دليل، وأوضح برهان، فمتى كانت الشهادة في سبيل الله والجنة، بالتحايل والكذب ودموع وحسرات وهم الوالدين، ونزع البيعة وعدم طاعة ولي الأمر، وقتل المسلمين رجالاً وشيوخاً ونساء، وتقطيع رؤوس الخارجين لنصرة الإسلام والمسلمين، بل متى كانت في الأحزمة الناسفة والانتحار وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فإن كانت هذه الأشياء ترسم طريقا، فهو طريق النار وبئس المصير . لأن الشهادة في سبيل الله، أمر شرعي، وقضية دينية، لابد أن تكون كما يريد المكافئ عليها، والمتولي لجزاء صاحبها، والجهاد عبادة لها ضوابط وشروط شرعية، لا تصح ولا تقبل إلا بها، منها صلاح النية بأن يقصد المرء بعمله وجه الله والدار الآخرة، لايريد شيئاً من الدنيا، ولا يكون جهاده من أجل حزب، ولا جماعة، ولا تنظيم، ولا دنيا يقصدها، وإنما يكون عمله لله عز وجل، وكذلك مراعاة المصالح والمفاسد، فمن الضوابط الشرعية التي جاءت بها الشريعة في باب الجهاد: مراعاة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإن الجهاد ما قُرِّرَ إلا من أجل رفع كلمة الله عز وجل، فإذا كانت مقاتلة الإنسان لغيره ستؤدي إلى تسلط الأعداء، وتؤدي إى جعل الناس يبتعدون عن شريعة الله ودينه، وتؤدي إلى جعل كل من سمع بدين الإسلام ينفر منه ولا يقبله، فحينئذ لا بد من مراعاة المصلحة الشرعية في ذلك. ومن ضوابط الجهاد وشروطه: أن يكون مع إمام لكي لا يكون فوضى كما يحدث في هذه الأيام، ومنها استئذان ولي الأمر والأبوين، وخاصة إذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فلا يجوز لإنسان أن يخرج للجهاد والقتال، وهو لم يستأذن من أبويه، أو لم يستأذن من إمامه. وغير ذلك من الشروط والضوابط التي يجب أن لا تخفى على من أراد الشهادة في سبيل الله، وقاتل من أجل أعلاء كلمة الله، لا من أجل شهوة أو شهرة أو جماعة أو حزب أو منظمة. فعمى القلوب أمر خطير، يجب الحذر منه، وتفقد القلب من الإصابة به، وإن كانت الفتن هي التي تتسبب في ذلك، فعلى المسلم الذي يريد وجه الله والدار الآخرة، أن يفعل ما أمره به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: (إنها ستكون فتنة) قالوا: ما المخرج منها يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله).