ساعة لا أذكرها بزمنها؛ بل بنبضها الناحب، ويومٌ لا أذكره بتاريخه؛ بل بلونه الشاحب، يوم مجللٌ بالسواد كنت ذاهباً فيه للمستشفى التخصصي للتبرع بالدم لقرة العين أبي نواف (عبد الله الصهيل) رحمه الله، وهناك كان الخبر المفجع والذي لم يتمثّل في خيال، ولم يرتسم في مخيلة، خبر وفاته، كان قمراً مضيئاً يشع حياة ويفيض أملاً، فما هي لحظة إلا رحل والحمد لله على كل حال، فو الله كنت بعد سماعي للخبر أمشي مشية التائه الذاهل لا أعرف طريقاً ولا أميز وجهاً، وعندها ذرفت من الحزن دمعاً لا يذرفه إلا من عرف قدر الأصدقاء وقلّ نصيبه منهم!
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
كنت أعد نفسي جلداً صبوراً؛ فلما مات أبو نواف علمت أن من المصائب ما لا تطيقه أكتاف القلوب!.. فما أشد ظلمة المكان الذي كان يجمعنا به، بعده وما أضيق المساحات التي كنا نراه فيها!
والليل من حولي هدوء قاتل
والذكريات تمور في وجداني
عرفت أبا نواف منذ ما يقارب السبعة عشر عاماً، رجلٌ كنت ألتقي به بشكل يومي؛ فعرفت الكثير من طباعه وانكشف لي الكثير من صفاته؛ كان إنساناً طيب الروح لطيف المعشر عذب الحديث، صديقاً يروقنا منظره ويؤانسنا محضره، ما رأيته حاقداً ولا منتقماً ولا طالبَ ثأر وما وجد الحسد لقلبه سبيلاً فقد كان يجود بالثناء لنجاحات أصحابه بل كان يعدها نجاحاً له رحمه الله، محافظاً على صلاته بل كان يشعر بوخز ضمير كونه يصلي جالساً رغم عدم مقدرته على الصلاة واقفاً، نال منه المرض آخر عمره - رحمه الله - وأنهكه، حيث ترادفت عليه الأسقام، وتواترت عليه الأوجاع ومع ذلك ظل صابراً محتسباً حمولاً للنائبات جلداً على مضِّ المرض، قضينا في صحبته شهوراً بعد المرض نعلم من خبايا نفسه ما يظن أننا نجهله! مرضٌ موجع وهمٌ ثقيل ولكنه صبورٌ متوكل، لا يفتر لسانه عن شكر الله وكانت جملة (الحمد لله) لحناً جميلاً تعزفها شفتاه المتوجعتان باستمرار وترددها روحه الصابرة..
يا أم نواف ما كتب معزياً ولا مواسياً ولا معبراً عن وجد ولا ناثراً لذكرى؛ فالقلم أصم واللسان عيّ، والخطب جلل والمصاب كبير، وكيف يستطيع أن يواسيك من شق عليه تعزية نفسه؟!
ولكن أكتب مذكّراً ومنبهاً، ففقْد من نحب أمر تنوء القلوب القوية بحمله؛ فكيف إن كان الفقيد بقامة عبد الله رحمه الله، وعلى كل حال فلست بدعاً من البشر يا أم نواف فتلك أخلاق الحياة وهذه طباعها، ولولا لطف الله يا أم نواف ورحمته وتثبيته لهلكنا أسى ووجعاً، ولكن هكذا قضى الله في هذه الدنيا، ولكِ في نواف وإخوته - بعد الله - عزاء وسترين منهم ما يقر عينيك صلاحاً وبراً - بإذن الله - ومما يُعزي أن الله قد حباك بوالدين كريمين وإخوة نبلاء وجد وجدة وأعمام وعمات لأبنائك من أطيب الناس وأجودهم وأكثرهم مروءة.
أختي أم نواف.. لقد بكى الباكون والباكيات ما شاء أن يبكوا وتألموا ما تألموا حتى إذا ضعفت قدرتهم وجفّ دمعهم لجأوا إلى مراقدهم فسكنوا فيها، وما أجزم به أنه لم يبق ساهراً غير عينين: عين أمه وعينك!
يا أم نواف تأكدي أن الله لا يبتلي إنساناً بمصيبة إلا ويلهمه القوة لتحمُّلها، ومعها وعدٌ بالأجر العظيم؛ فالمؤمن يصبر مختاراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، ولعلَّي أسليك بقول لابن شبة - رحمه الله - يقول فيه: (ثواب الله خير لك منه، ورحمة الله خير له منك) وسوف نغفر للدرب الطويل مشقته وألمه وأوجاعه عندما نحظى بموعود الله؛ ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي:(يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)، ومما يعزيني عندما تأملت في حال حبيبي عبد الله فإنني أحسب أن الله يحبه فقد عانى -رحمه الله - خلال الشهور الأخيرة، (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئةٌ).
يا أم نواف: إن من أعظم مثبتات القلوب ومسكنات الأرواح التسليم بقضاء وقدره؛ فالأقدار سهام إذا أطلقت بأمر الله لم ترد! فالموت غاية الأحياء ومقادير الله تجري بين البشر وهي ليست سهاماً طائشة ولا رصاصاً تائهاً؛ بل آجال ثابتة ومواعيد مقدرة.. {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
فحمد الله والاسترجاع بلسمٌ وشفاءٌ ونورٌ وضياءٌ وبها يكون التثبيت من الله، ولولا تثبيته لطاشت العقول وطاحت النفوس وطارت القلوب!
وأحسبك يا أم نواف صابرة محتسبة قوية بإيمانك ولن يجد اليأس عليك سبيلاً ولا الهم لك طريقاً، وسوف يعوّضك الكريم في آتي أيامك ما فقدتِ من سلوة، ثقي بهذا، ونحن في هذه الدنيا إنما نحن عابرون وثمة لقاء لا فراق بعده سنلتقي فيه بالحبيب موعدٌ لا يخلف - بإذن الله - لا مرض بعده ولا وجع ولا هم ولا حزن.
فعظّمَ اللهُ أجرك يا أم نواف وأجر أهله، وجبرَ مُصابكَم، ونحن جميعاً شركاؤكَم فيما عراكَم من هذه النّائبة الموجعة، سائلا ًالمولى أن يمطر على ضريحه سحائب الرضوان.
ومضة قلم:
وبي أمل يأتي ويذهب لكن لن أودعه.